اياد شماسنة/شاعر وروائي
عندما يقول إميل حبيبي إنه لم يستطع قراءة أكثر من عشر صفحات،
لم يفهمها لجبرا إبراهيم جبرا، مع أن جبرا مقروء باللغتين العربية والانجليزية. هل
يبدو التبرير منطقيا بما يتناسب ومكانة وحجم إبداع إميل حبيبي، ومكانة وتأثير جبرا
في الأدب العربي؟، سيقال فيما بعد أن جبرا كاتب برجوازي.
يذكرك الأمر بالتقسيمات الطبقية، التي زعم الزاعمون محاولات
هدمها، بينما هم يصنفون الناس على أساسها. هل سيكون ذلك مثال على تكريس ثقافة الحزب على
حساب حزب الثقافة؟ هل يتنحى الإبداع الذي يخرج عن رأي القطيع جانبا لتبرز ثقافة
القطيع، أو يعلو صوت الخراف الجيدة التي تغرد في السرب؟ وهل كنا في واد يزعم
النضال بالثقافة ويدعي ثقافة النضال والثقافة النضالية والإنسانية العادلة في واد
آخر؟
عندما تحدث د علي جعفر العلاق عن الشاعر الفلسطيني الراحل أحمد
دحبور، فسر عدم ارتفاع مستوى شعبيته بموازاة شعراء المقاومة الآخرين، مع أنه شاعر
مجيد، قال "من المؤكد أن أحمد دحبور لم يعش نشوة النجومية التي عاشها غيره
دون وجه حق أحياناً، إلاّ أنه قدم براهينه الكاملة على تناغم شعري وإنساني قلّ
نظيره." [1]
هذه شهادة كاتب غير
برجوازي لأحمد دحبور غير البرجوازي، المبدع، المثابر، الملتزم بقضيته الوطنية
وفعلها التحرري، ومع ذلك لم ينل حقه ومجده
كما فعل غيره من الحزبيين والسياسيين وحتى التحرريين.
هل السياسة هي التي تقرر قيمة المنجز الإبداعي في الشرق العربي؟
كم عملا إبداعيا قمعه مبدعون ينتمون لأحزاب لأنه لم يكن مثلهم، لم يكن مصفقا أو
مواليا أو منظرا أو هاتفا أو مادحا بحمد الشلة او الحزب أو الفصيل أو العائلة
الثقافية؟ كم عملا رفع للسموات، ليس إلا، لأنه ينتمي أو ينظر للحزب؟
هل هذا ما قصده د. العلاق عندما قال "غير أن شيئاً آخر، لم
يكن يحرص عليه أحمد دحبور، شيئا لا يمت للموهبة بصلة، لكنه يرتبط بمنطق السوق
الشعرية والمداهنات الرائجة، شيئا تعفّ عنه كرامة أحمد دحبور وصدق تجربته. أعني:
الرافعة الإعلامية. كانت الموهبة وحدها لا تكفي في ربوعنا العربية. لا بد من شللية
ضامنة. لا بد من قبيلة محاربة، ولا بد من أكفّ يدميها تصفيق قد لا يخرج من القلب
كله".
أدب الالتزام الحزبي وصناعة التكريس
هل صنعت الأحزاب ظاهرة ثقافية ناضجة،تقوم على تعزيز الفكر
المستنير بالعلم والموضوعية، وتقييم الحكمة على أنها ضالة المؤمن،في الوقت نفسه؟
ماذا قدمت الثقافة الحزبية للإبداع؟ .هل وصلت به إلى مستوى منافس للآداب في الجوا،شرق
أسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية؟ كم أديب تم إقصاؤه أو مصادرة كتبه او
منعها أو اعتقاله تحت حكم الأحزاب الواحد ووجهة النظر الوحيدة؟
يبقى السؤال الأخطر: هل ينتج الالتزام الحزبي أدبا أم بيانات
ثورية ونظريات حزبية ويروج للايديولوحيا؟ وهل يبقى المثقف الذي خدم الحزب ونظرياته
مثقفا من طراز رفيع عندما يبدأ بالتفوق ويصبح أكبر أو أكثر استنارة من الحزب؟ هل
يخرج من عباءة الحزب ام يخرج الحزب من عباءته ؟ ام يتعلق بأذياله؟
فوضى التكريس والتصنيف
قال احد قادتنا يوما إن منتميا للحزب ومناضلا بالنسبة إليه أفضل
من حامل لشهادة الدكتوراه ولا ينتمي لحزبه.؟ هل يمكن قياس ذلك على الشعراء
والروائيين والإعلاميين؟ هل احتل الصف الأول أدباء لأنهم ينتمون لأحزابهم أم لأنهم
يمتلكون أدوات الإبداع ومناهجه؟ هل لمعت أسماء أم تمت تلميعها؟ وهل تصمد أسماء أن
ظلت على موقفها الحزبي حين يكون مختلفا..
في ليل الضفة الطويل يذكر د. عادل الاسطة كيف وصف إميل حبيبي
.صحيفة القدس بالبرجوازية ثم عاد إلى الكتابة فيها! هل غير رأيه، أم غفرت له الجريدة
البرجوازية وراعيها ومالكها وكتابها واعلاميوها؟ سيحيلنا هذا إلى وصف إميل لجبرا بأنه برجوازي!
من المناسب ذكر ان إميل
حبيبي هو نائب في الكنيست الإسرائيلي، الذي أقام دولة فوق أرضه وينتمي للحزب الذي
يعتبر فلسطين مرحلة من مراحل نضاله الاممي، أي محطة نضال فقط في سبيل دولة عالمية
لجميع الفقراء.
سنستنتج في مطالعات الصحف والمجلات
العربية من المحيط إلى الخليج عن نوعيات التكريس ونماذج التصنيف للكتاب والإبداعات،
فينما تصنف "أولاد حارتنا بأنها ضد الإسلام وتمنع في مصر ، تنتشر مجلات مستوردة
وتباع على الأرصفة لا تشير للإسلام بصفة، او تخالف تعاليمه بفجاجة، في الوقت نفسه
تنتشر لوليتا، الرواية التي منعت في كثير من الدول الحرة او المتحررة، تباع دون
رقيب في دول التكريس والتنميط والتحزيب، طبعا كل ذلك يعتمد على مقص الرقيب،
وتوصيات الذين يوصون، ثم مقص الحزب، وأجنداته، وبياناته التي يريد لها أن تروج.
واقع القبائل وأحوال الفصائل
تنتشر الشللية، وأولويات التكريس، والمحسوبيات الفئوية من الصف
الاول إلى الصف الاخير، ثم تتغلغل في المؤسسات المساندة للإبداع، كالصحافة والإعلام،
حيث تتكون" حظائر ثقافية" كل واحدة تنافس الاخرى بمنتميها، وتبتلع
المزيد ممن يقبل شروط الحظيرة، وعن ذلك؛ تدافع كل حظيرة عن مكوناتها، تلمعهم،
ترفعهم، تدعمهم ، وترعاهم الى درجة التسمين، ثم تطلق عليهم الجوائز والمشاركات
والمهرجانات، والمؤتمرات، تجدهم في كل حدب وصوب، يصدرون كل ثلاثة أو أربعة أشهر إصدارا،
في الوقت الذي يستثنى فيه من لا يقبلون بالخظيرة، ولا تبعية الحظائريين، أحيانا
يحاربون، او يستثنون، ثم عندما يستمرون دون اهتمام بحظيرة ما، يوصمون،
ويوصفون" بألفاظ حزبية غير ثقافية " كما وصف جبرا يوما .
محاولة انفلات نحو الخلاص
لا أعتقد اننا نسير في
الطريق الصحيح حتى الان، ما زال الحال بائسا، قبليا، ما زال الحال الثقافي يذكرني
بصراع العائلات والممالك في المسلسل الأسطوري الكبير والضخم "لعبة العروش
" الماخوذ عن سلسلة روايات الكاتب الكبير جورج مارتن "أغنية الجليد
والنار"، كل عائلة تفني الاخرى، ومع ذلك تظل قبائل، وتأتي التنانين لتحرق أو
تحكم، أو تحكم أم التنانين بسطوة التنانين. الفجوة الحضارية والثقافية تكبر
بتسارع، مع اننا نجز كل يوم؛الا اننانتقدم خطوتين ونتراجع
خطوة الى الخلف، فتكبر الفجوة كل يوم.
تعليقات
إرسال تعليق