9 مايو، 2016
حمزة عقرباوي
على ضفاف “الواد الأحمر” في الغور الفلسطيني، تعيشُ حكايات وأساطير لم يُكتب لها بعدُ الرحيل، فكلما خَفَتَ بريقها لمعت من جديد. أساطير حَفظها الفلاحون، ونقلوها جيلاً بعد جيل، لتظل ذاكرة الجغرافيا سلاحاً بأيديهم يُقارعون به المُحتل الذي يُحاول سرقة الأرض من تحت أقدامهم، في زمن انقلبت فيه الموازين.
سنحاول أن ننبش ذاكرة المكان، وأنّ نصف “الواد الأحمر” مُستخرجين منه ما وهبه للإنسان من حكايا وأساطير عبر تتابع زمني؛ هذا الواد الذي شهد حياةً وحضورًا في المشهد الحضاري الفلسطيني بدءًا من الحضارات الأولى التي عرفت الزراعة، مرورًا بحقبٍ وأزمنة ما إن تنتهي واحدة، حتى تولد على أنقاضها أمةٌ أخرى تحمل من موروث سابقتها، وتنقله لمن يخلفها في تتابع لأساطير الواد.
“الواد الأحمر”، واحدٌ من وديان الغور الفلسطيني في الجزء المُسمى “الغور النابلسي” الذي يمتدّ من عين البيضا قرب بيسان شمالاً، حتى خربة فصايل جنوبًا، وهو مُقسّم لعدة أقسام حسب المنطقة التي يتبع لها: (غور طوباس، غور طمون، غور الفارعة، غور المساعيد، غور عقربا، وغور فصايل).
يُقاتل “الواد الأحمر” كي يبقى في ذاكرتنا الجمعيّة، ولا يَكلُ عن تذكيرنا بحضوره الفاعل في المشهد الفلسطيني اجتماعيًا وسياسيًا وكفاحيًا، لذلك نُحاول سرد حكاياته وأساطيره، وصفحات من تاريخه، إيمانًا منّها بأن الأسطورة المحكيّة التي تُروى عن المكان الجُغرافي تُساعدنا في فهم علاقتنا بالأرض، ولماذا نتشبّث بالوطن رغم كُل مُحاولات الاقتلاع.
إن الأسطورة أو الحكاية جذرٌ عميق يربطنا ببلادنا، ويغذينا بكل مقومات الصمود أمام مشروع صهيوني قام على أساطير مُتوهمة، وخيالات لا جذر لها.
ذاكرة جُغرافيا الواد نَستلهمها من الفلّاح الفلسطيني الذي يتمسك بمهنته وطقسه ومُعتقده، مُشكّلاً بذلك القوقعة التي يتّقي بها غول الاستيطان، وما يُروّج حول أحقيّة المُحتل بالأرض جُغرافيًا وتاريخيًا. فيبذل الفلاح الفلسطيني جُهده ليثبت لذاته ولمحيطه أن الصّلة بالمكان لا تقتصر على ورقة التملّك وإثبات الأحقيّة القانونية؛ فالفلسطيني مُتصلٌ بالمكان الذي يعيش فيه، ويدرك كل خفايا الجغرافيا، وأسماء البقاع وطبيعة التربة ومقدار خصبها ومواسم محلِها وقحلها، وتشَكُّلِ معالمها، وحضورها في الأحداث والمحكيّات الشفهية.
“الواد الأحمر” كذاكرة جغرافيا سنجوبه معًا لنطالع بعض ما سَطّر الزمان بين جنباته، وسنبحرُ في الواد ونمشي في اسمه ومقاطعه وأبطاله وأماكنه ومعالمه، لُنشكِّل صورة كاملة عن المكان الأسطوري في “الغور الفلسطيني”.
وبالحديث عن سبب التسمية، تحكي الروايات الشفهيّة أنّه سُميّ “الوادي الأحمر” لأن تُربته حمراء، تُشبه التربة بجبال فلسطين الوسطى، ومنها قرى شفا الغور التي تُشرف على الواد، وهذه التربة الحمراء تختلف عن تربة الغور لونًا وخُصوبةً؛ ولذا اكتسب الواد اسمه من لون تُربته في مقطعه الأوسط بالقرب من منطقة تُسمى سد حريز.
وقيل أيضًا في أصل التسمية أن معارك طاحنة دارت رحاها في جبل نابلس أو على ضفاف الواد في زمان غَبُرَ خَبرهُ وانقضى أمره، فأحالت الدماء الجارية لون ماء الواد إلى اللون الأحمر لكثرة ما تطايرت الرؤوس وسُكبت الدماء في تلك الحرب الضروس.
والواد الأحمر بمساره الطويل، مُقسم لعدة أودية يعُرف كل مقطع منه باسم المنطقة التي يخترقها ويمرُّ منها، حتى يكادُ الناسُ ينسون أن كل الواد الطويل بمجراه بدءًا من شرق عقربا حتى نهر الأردن هو “الواد الأحمر”.
ومن تلك الأسماء التي تُطلق على مقاطع “الواد الأحمر” حسب عُرف الفلاحين مالكي الأرض على ضفاف الوادي: واد الرّدم، واد الجهير، واد لفجم، واد الزقازقة، الواد الأحمر، واد فصايل، وواد الدّشة.
ويُغذي كل تلك الوديان المكوِّنة للوادي الكبير عدة أودية صغيرة تصب في كل مقطع منه، حاملةً معها مياه الأمطار لتلقي بها في “الواد الأحمر” مُستأمنة إياه عليها لتصل إلى نهر الأردن. وحين نتحدث عن روافد نهر الأردن والوديان التي تُغذيه في الغور النابلسي، نذكر خمسة وديان تعتبر “الأكبر والأهم”، وهي: واد شوباش، واد المالح وادي دورا، واد الفارعة، والواد الأحمر.
ويتّصف الواد الأحمر بتضاريسه وطبيعته المُتنوعة، فتمر حينًا بمقطع شديد الوعورة صعب المسالك بين جبال شاهقة، ونتوءات بارزة ومغرً كبيرة ومتناثرة، يتجنب المرء السير فيها نهارًا؛ لرهبتها ووعورتها وطبيعتها القاسية في غورٍ لاهبٍ شديد الحرّ. وتكاد تلفظ أنفاسك صعودًا إلى قمم الجبال الوعرة الواقعة على طرفيّ الواد في مقاطع منه.
وتمضي غير بعيد في سهل خصبٍ منبسط أحمر التربة، يستغله الفلاحون ويزرعونه بالقمح غالبًا، فيأكلون ويطعمون أبناء السبيل. وهنا وهناك عيون ماء متناثرة على مشارف الواد تروي نُزلاء الواد والأغوار، وتكفي لسقي الحيوانات. كما يضمُّ الوادي بين جنباته بركًا ومعاصر وسدود ومخاريق وتجاويف وعُرقان وأشجار ونباتات، وتنوع رهيب للحياة البريّة في منطقة تُعتبر صحراء قاحلة صيفًا، وتنقلب إلى جنةٍ خضراء في الشتاء والربيع.
وعلى ضفاف “الواد الأحمر”، وخلال مسيرك مع مجراه، بإمكانك أن ترى الفلاحين يشدّون على دوابهم، وينهرونها أثناء حراثة الأرض، لزراعة لمحاصيلهم البعلية، حتى قال قائلهم مثلًا يصف فيه الزراعة في كل شبرٍ هناك: “راح الغربال من أبو عجاج لحقه صاحبه بالعوجا”، وأبو عجاج والعوجا منطقتين أحدهما شمال أريحا، والأخرى وسط “الغور النابلسي” بالقرب من الجفتلك.
وفي الوادي أيضًا، بإمكانك أن ترى “الغنّامين”، أي مُلّاك الأغنام، الذين نصبوا خيامهم وغرسوا أوتادها على ضفاف “الواد الأحمر” من أول مجراه لمنتهى منصبه في نهر الأردن، مُسهمين في خلق حياةٍ شبه دائمة، وتواجدٍ لا ينقطع.
وفوق كل ذلك، يُوفر “الواد الأحمر” وما حوله من الغور، كُلّ مقومات الحياة من طعام وأعشاب ونباتات بريّة، ومثلها الحيوانات التي تُطارد وتُصطاد، حتى ضربوا المثل بقطعان الغزلان في الوادي.
زراعة وأغنام وعيون ماء، وفلاحون ومأوى وبلادٌ وعرة، وجغرافيا مُعقدة مملوءة بالمُغر والكهوف والمناطق القاسية التي يصعب الوصول إليها إلا بشق الأنفس، كُل ذلك خلق حياة أكسبت أصحابها صلابة وقسوة، وجذبت إليهم من تصلح له تلك الحياة، ومن لاحقته الدول وثار على حكّامها، فانزوى في جنبات “الواد الأحمر” وعاش حتى طوى الزمان صفحته.