التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الاركيولوجيا، والرواية التاريخية بين الشيخ رائد صلاح والقنصل البريطاني جيمس فن



يبدو الارتباط بين الشيخ رائد صلاح، والقنصل البريطاني الذي عاش جزءا من حياته في فلسطين؛ غريبا، لكن التراب المقدسي في حادثتين منفصلتين موقعا وزمنا يربطان بينهما برابط عجيب، وهو مدى الدقة والاهتمام في التعاطي مع الأثر التاريخي للتراب المقدسي، بين السياسي التوراتي او المؤمن بالعهد القديم وبالسياسي الحركي الإسلامي الحالي، هذا الرابط العجيب  تبنى عليه استراتيجيات الصراع حول الأماكن المقدسة بدءا من التسميات وانتهاء بالملكية والسيطرة ثم المحو والانشاء
لا اختلاف على ان بني إسرائيل القدماء ومنهم اليهود او العبرانيون، هم جزء قديم من نسيج البلاد التي عرفت بارض كنعان، او ارض ميريام حسب اقدم التسميات المعروفة، بالإضافة الى ما اندمج في النسيج من الفلستيين وغيرهم، وهم بالتأكيد غير اليهود القدامين من اعراق وجينات مختلفة جدا وفق مشروع كولونيالي صهيوني، ومع ذلك فان الرواية التوراتية، هي رواية فلسطينية، وان كانت رواية انثروبولوجية، وربما افتقدت للدقة التاريخية، لكنها الان توظف سياسيا لخدمة المشروع الاستعماري في محو شعب موجود وانشاء شعب اخر.
 كل ذرة تراب وكل حجر فيها يمكن أن يعني شيئا، إنها القدس.  في هذا المجال سنورد قصتين او تجربتين للصراع الاركيولوجي على مدينة القدس، علم الاثار التوراتي الذي يمتد الى أربعة قرون وهو يحمل البحث الاثري بيد والتوراة باليد الاخر، والاركيولوجيا العلمية والتوثيقية، الإمكانيات الهائلة التي ترصد لدعم الأول والذي انتعش كثيرا بتأسيس صندوق استكشاف فلسطين عام(1863م)، ثم قيام الدولة المحتلة عام 1948م، وبين الجهد الذاتي محدود التمويل، الذاتي والمؤسساتي الذي يدافع عن الحق والحقيقة في وجه الالة العسكرية والايدولوجية،
في القصة الحديثة، دأبت مؤسسة الأقصى للدفاع عن المقدسات، التي يديرها مقربون من صلاح، على تسجيل الخروقات الاحتلالية في القدس ومحيط الحرم القدسي الشريف، توثيق أي اعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية في انحاء فلسطين التاريخية، بحسب الكاتب أسامة العيسة الذي يضيف ان صلاح وانصاره، نجحوا أخيرا، في إثارة الاهتمام فيما يتعلق بما يجري الان في باب المغاربة
من المهم تذكر ان صلاح هو الذي قاد عملية إزالة الاتربة  من المصلى المرواني ، وهو مبنى تسوية تحت ساحات المسجد الأقصى  ، ويضم المصلى 16 رواقا حجريا قائما على دعامات حجرية قوية، ويمتد على مساحة تبلغ نحو أربعة دونمات ونصف (الدونم = ألف متر مربع)، حيث يعد أكبر مساحة مسقوفة في المسجد الأقصى المبارك حاليا. ويمكن الوصول إليه من خلال سلم حجري يقع شمال شرق الجامع القِبْلي، أو من خلال بواباته الشمالية الضخمة المتعامدة على السور الشرقي للمسجد الأقصى المبارك، والتي تم الكشف عنها مؤخرا.
خلال فترة الاحتلال الصليبي للقدس، حوله المحتلون إلى إسطبل لخيولهم، ومخزنٍ للذخيرة، وأسموه "اسطبلات سليمان". ولا يزال بالإمكان رؤية الحلقات التي حفروها في أعمدة هذا المصلى العريق لربط خيولهم. وبعد تحرير بيت المقدس، أعاد صلاح الدين الأيوبي () تطهيره وإغلاقه. ثم أعادت مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات ولجنة التراث الإسلامي ببيت المقدس تأهيله، وفتحه للصلاة، في نوفمبر 1996م -1417هـ، وذلك بهدف حمايته من مخطط كان يهدف إلى تمكين اليهود من الصلاة فيه، ومن ثم الاستيلاء عليه، حيث أقاموا درجا يقود إليه عبر الباب الثلاثي المغلق في الجدار الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك.
في قصة افتتاح المصلى المرواني قصة أخرى شار اليها العيسة سابقا، ويمكن الإشارة اليها للتأكيد على خطورة العمل في القدس، وخطورة الارتجال بدون وعي أدوات الطرف الاخر في الصراع، وهي عملية القاء الاتربة والمخلفات التي ازيلت من المصلى المرواني، حيث  القيت الكومات الناجمة في مكان قريب دون تنقيب او تنخيل،  مع العلم ان سلطات الاحتلال تمنع اخراج ذرة تراب من داخل ساحات المسجد الأقصى دون تنخي ل للبحث عن اية ادلة تاريخية تفيد او يتم تأويل نتائجها لخدمة الرواية التوراتية، لقد اهملت الكومة وستبقى معرضة للمصادرة او التنقيب، بحسب ما كتب الأستاذ أسامة العيسة في مقال سابق في معرض التركيز على قضية الاتربة
القصة الثانية  ترجع الى القرن التاسع عشر ، حيث لاحظ جيمس فن، قنصل بريطانيا في القدس،  خارج اسوار مدينة القدس، في الجهة الشمالية  الغربية، على مقربة من طريق نابلس وقبور السلاطين، وجود اكوام من رماد  فضي ازرق، لا تنبت عليها اية حشائش او اعشاب ابدا، ارتفاع احد هذه الاكوام أربعين قدما، قال ان اهل المدينة يعتقدون ان هذه الاكوام  هي مخلفات منتوج البوتاس من غلايات صنع الصابون من العصور الخوالي، بينما يخمن الانجليز ان هذه الاكوام هي تراكم للرماد  الناتج عن الأضاحي القديمة التي كانت تقدم في المعبد اليهودي على حد زعمه.
المثير في الامر هو ان عينات من المكان أرسلت بواسطة د روث، أحد المهتمين بالبحث المرتبط بالتوراة، أرسلت الى المانيا لتحليلها الذي جرى في مختبرات لا يبيج الشهيرة، ثم تقدم د. ساندريتسكي بتقرير مكتوب بالإنجليزية الى الجمعية الأدبية في بيت المقدس والتي كان جيمس فن من مؤسسيها، افاد بان مكونات الرماد هي من بقايا حيوانية، مستنتجا ان البقايا لحيوانات محروقة، وليست نباتية، واكد انها تحتوي على أجزاء صغيرة جدا من العظام والاسنان المحترقة، مع صعوبة    تحديد نوع وفصيلة الحيوانات
ومع ان نتائج التحليل اظهرت وجود كميات بنسب قليلة من حمض السيليسيك ، وهو حمض يستحيل الحصول عليه في رماد اللحم والعظم ، لكن د روث  افترض ان  حدوث نقل للرماد الناتج عن القرابين الحيوانية قد تم نقله الى الكومتين الموجودتين من الأساس، ومع ذلك كرر الامر بأخذ عينات  م أجزاء عميقة من  الكومات، إضافة الى تحليل المياه المعدنية القريبة من بحيرة طبريا،
قال جيمس فن في تعليقه على النتائج ان هذه النتائج الاثرية الهامة بالإضافة الى تأكيد الأوامر المقدسة، فإنها تساهم في تحديد مسار الاسوار القديمة لبيت المقدس، حيث ان الرماد ألقى في منطقة قريبة من اسوار المدينة، في افتراض الى ان اسوار القدس قد تم تغير مواقعها في الأزمنة اللاحقة. في خطاب من وليام ديكسون بتاريخ الخامس من أيار عام 1855 يشير الى حفريات تمت في الكومات ويفيد انها متجانسة ولم تختلط باي تراب او حجارة او صلصال، في نفي لفكرة مخلفات الصابون، ثم العثور على عظام او بقاياها، مخمنا انها لماعز او خروف وليس أي من سواها، مفترضا ان وادي الرماد المذكور في سفر ارميا 31:40 هو موقع الكومتين بافتراض وجود واد تم طمره بتراكم نفايات المدينة
ما زال البحث الاثري الفلسطيني، وخصوصا المهتم بالاركيولوجيا في بيت المقدس بسيطا جدا مقارنة بالتحديات، ومازالت الادبيات العربية تتبنى كثيرا من الاسرائيليات المنتشرة في الكتب، وحتى على المستوى السياسي، يقبع الاهتمام بالبحث التاريخي والاركيولوجيا في اخر السلم، الخطير هو منح فرص  للاحتلال او  اهدار فرص  هي في الأساس داعمة للرواية الانثروبولوجية والتاريخية الفلسطينية، والمقارنة بين الحادثتين أعلاه خير مثال على الفجوة الهائلة.

تعليقات

  1. اليهود لم يكونوا جزءا من النسيج الفلسطيني في يوم من الأيام...بشهادة نعوم تشومسكي الفيلسوف الأمريكي اليهودة الأكبر..في حوار طويل مع غسان بنجدو

    ردحذف
  2. اليهود لم يكونوا جزءا من النسيج الفلسطيني في يوم من الأيام...بشهادة نعوم تشومسكي الفيلسوف الأمريكي اليهودي الأكبر..في حوار طويل مع غسان بنجدو

    ردحذف
    الردود
    1. وما هو النسيج الفلسطيني يا صديقي، وفد يهود الى فلسطين كما وفد مغاربة وسودانيين، وصاروا جزءا من هوية البلاد، وتبعا للمراحل السياسية كان عددهم يزيد وينقص

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

موسم النبي روبين في جنوب فلسطين بلدة ومقام النبي روبين عام 1935

حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان

الأولى   فنون حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان  2018-08-01 10:00:00 المصدر: موقع مؤسسة عبد المحسن القطان إياد شماسنة كاتب وشاعر من فلسطين  "أبعاد ذاتية" لمنال ديب في دار إسعاف النشاشيبي بالقدس حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان يستمر المعرض من 27 حزيران وحتى نهاية أيلول، في المبنى الرمادي الغامق على شكل مكعب، أعلى تلة في ضاحية الطيرة التي تتوسع نحو الريف، وتستمر رسالة المؤسسة في التنوير والمساهمة في تكوين وترسيخ ثقافة نقدية فلسطينية، ذاتية للبنية والمشروع السياسي، كما قال عبر الرحمن شبانة أحد القيمين على المعرض. عندما يرتبك المشروع السياسي، أو يغيب الضوء قليلاً عن الأفق الوطني، في ظل متغيرات قاهرة، تتراجع السلطة الحاكمة، تتخلى، أو يتم إجبارها على التخلي عن دورها الخدماتي، ويقتصر على التشريع والدفاع إن وجد، لصالح القطاع الخاص، أو بمشاركة ولو محدودة للقطاع الأهلي. في تلك التحولات؛ تتقدم الثقافة، ناقدة، تنويرية، مثيرة للأسئلة، باحثة عن ال...

رحلة ايفا شتال الى فلسطين عبر مخيم تل الزعتر

" حدود المنفى " (رحلة إيڤا شتّال إلى فلسطين عبر مخيّم تلّ الزعتر) جوتنبرج 14.01.19 أعزائي؛ سميرة وحسن عبادي لقد مر شهرٌ وأكثر منذ عودتنا من فلسطين، وما زلنا لم نستقر بعد. لا يتعلق الأمر بأننا لا نمتلك عائلة كبيرة (إنها لدينا)، والكثير من الأصدقاء (هم لدينا)، أو أن والدتي تبلغ من العمر (ما يقرب من 96 عامًا وتتمتع بصحة جيدة جدًا، ولكنها الآن سقطت وارتطم رأسها)، أو أنه لا توجد فرصة للحديث عن فلسطين؛ (نحن نفعل ذلك – فقد كتب نيستور(زوج إيڤا ح.ع.) نصًا ووضعه على الفيس بوك وكان هناك الكثير من التعليقات والمشاركات. لقد قدّمْتُ عرض باور بوينت متقدم وأنجزت الان حتى الآن 4 "لقاءات"، على سبيل المثال: اجتماعات مع الكثير من الأشخاص المهتمين) . لا، إنه شعور بأن الوقت يمر بسرعة كبيرة، ولا يمكننا العمل بشكل جيد بما يكفي لوقف آلة القتل الإسرائيلية من أجل استمرار الاحتلال . نحن نشعر بالحزن! إنه نوع من الاكتئاب، العجز. هذه هي الحقيقة، على الرغم من أننا رأيناك قوياً للغاية، وتستمر في القول: "هذه هي حياتنا" "هذا هو الاحتلال" أو "هذه هي إسرائيل "...