يبدو الارتباط بين الشيخ رائد صلاح، والقنصل البريطاني الذي عاش جزءا من
حياته في فلسطين؛ غريبا، لكن التراب المقدسي في حادثتين منفصلتين موقعا وزمنا
يربطان بينهما برابط عجيب، وهو مدى الدقة والاهتمام في التعاطي مع الأثر التاريخي
للتراب المقدسي، بين السياسي التوراتي او المؤمن بالعهد القديم وبالسياسي الحركي
الإسلامي الحالي، هذا الرابط العجيب تبنى
عليه استراتيجيات الصراع حول الأماكن المقدسة بدءا من التسميات وانتهاء بالملكية
والسيطرة ثم المحو والانشاء
لا اختلاف على ان بني إسرائيل القدماء ومنهم اليهود او العبرانيون، هم جزء
قديم من نسيج البلاد التي عرفت بارض كنعان، او ارض ميريام حسب اقدم التسميات
المعروفة، بالإضافة الى ما اندمج في النسيج من الفلستيين وغيرهم، وهم بالتأكيد غير
اليهود القدامين من اعراق وجينات مختلفة جدا وفق مشروع كولونيالي صهيوني، ومع ذلك
فان الرواية التوراتية، هي رواية فلسطينية، وان كانت رواية انثروبولوجية، وربما
افتقدت للدقة التاريخية، لكنها الان توظف سياسيا لخدمة المشروع الاستعماري في محو
شعب موجود وانشاء شعب اخر.
كل ذرة تراب وكل حجر فيها
يمكن أن يعني شيئا، إنها القدس. في هذا المجال سنورد قصتين او تجربتين للصراع
الاركيولوجي على مدينة القدس، علم الاثار التوراتي الذي يمتد الى أربعة قرون وهو
يحمل البحث الاثري بيد والتوراة باليد الاخر، والاركيولوجيا العلمية والتوثيقية،
الإمكانيات الهائلة التي ترصد لدعم الأول والذي انتعش كثيرا بتأسيس صندوق استكشاف
فلسطين عام(1863م)، ثم قيام الدولة المحتلة عام 1948م، وبين الجهد الذاتي محدود
التمويل، الذاتي والمؤسساتي الذي يدافع عن الحق والحقيقة في وجه الالة العسكرية
والايدولوجية،
في القصة الحديثة، دأبت مؤسسة الأقصى للدفاع عن المقدسات، التي يديرها
مقربون من صلاح، على تسجيل الخروقات الاحتلالية في القدس ومحيط الحرم القدسي
الشريف، توثيق أي اعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية في انحاء فلسطين
التاريخية، بحسب الكاتب أسامة العيسة الذي يضيف ان صلاح وانصاره، نجحوا أخيرا، في
إثارة الاهتمام فيما يتعلق بما يجري الان في باب المغاربة.
من المهم
تذكر ان صلاح هو الذي قاد عملية إزالة الاتربة
من المصلى المرواني ، وهو مبنى تسوية تحت ساحات المسجد الأقصى ، ويضم المصلى 16 رواقا حجريا قائما على دعامات
حجرية قوية، ويمتد على مساحة تبلغ نحو أربعة دونمات ونصف (الدونم = ألف متر مربع)،
حيث يعد أكبر مساحة مسقوفة في المسجد الأقصى المبارك
حاليا. ويمكن الوصول إليه من خلال سلم حجري يقع شمال شرق الجامع القِبْلي، أو من
خلال بواباته الشمالية الضخمة المتعامدة على السور الشرقي للمسجد الأقصى المبارك،
والتي تم الكشف عنها مؤخرا.
خلال فترة
الاحتلال الصليبي للقدس، حوله المحتلون إلى إسطبل لخيولهم، ومخزنٍ للذخيرة، وأسموه
"اسطبلات سليمان". ولا يزال بالإمكان رؤية الحلقات التي حفروها في أعمدة
هذا المصلى العريق لربط خيولهم. وبعد تحرير بيت المقدس، أعاد صلاح الدين الأيوبي
() تطهيره وإغلاقه. ثم أعادت مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات
ولجنة التراث الإسلامي ببيت المقدس تأهيله، وفتحه للصلاة، في نوفمبر 1996م
-1417هـ، وذلك بهدف حمايته من مخطط كان يهدف إلى تمكين اليهود من الصلاة فيه، ومن
ثم الاستيلاء عليه، حيث أقاموا درجا يقود إليه عبر الباب الثلاثي المغلق في الجدار
الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك.
في قصة
افتتاح المصلى المرواني قصة أخرى شار اليها العيسة سابقا، ويمكن الإشارة اليها للتأكيد
على خطورة العمل في القدس، وخطورة الارتجال بدون وعي أدوات الطرف الاخر في الصراع،
وهي عملية القاء الاتربة والمخلفات التي ازيلت من المصلى المرواني، حيث القيت الكومات الناجمة في مكان قريب دون تنقيب
او تنخيل، مع العلم ان سلطات الاحتلال
تمنع اخراج ذرة تراب من داخل ساحات المسجد الأقصى دون تنخي ل للبحث عن اية ادلة
تاريخية تفيد او يتم تأويل نتائجها لخدمة الرواية التوراتية، لقد اهملت الكومة
وستبقى معرضة للمصادرة او التنقيب، بحسب ما كتب الأستاذ أسامة العيسة في مقال سابق
في معرض التركيز على قضية الاتربة
القصة الثانية ترجع الى القرن
التاسع عشر ، حيث لاحظ جيمس فن، قنصل بريطانيا في القدس، خارج اسوار مدينة القدس، في الجهة
الشمالية الغربية، على مقربة من طريق
نابلس وقبور السلاطين، وجود اكوام من رماد
فضي ازرق، لا تنبت عليها اية حشائش او اعشاب ابدا، ارتفاع احد هذه الاكوام
أربعين قدما، قال ان اهل المدينة يعتقدون ان هذه الاكوام هي مخلفات منتوج البوتاس من غلايات صنع الصابون
من العصور الخوالي، بينما يخمن الانجليز ان هذه الاكوام هي تراكم للرماد الناتج عن الأضاحي القديمة التي كانت تقدم في
المعبد اليهودي على حد زعمه.
المثير في الامر هو ان عينات من المكان أرسلت بواسطة د روث، أحد المهتمين
بالبحث المرتبط بالتوراة، أرسلت الى المانيا لتحليلها الذي جرى في مختبرات لا يبيج
الشهيرة، ثم تقدم د. ساندريتسكي بتقرير مكتوب بالإنجليزية الى الجمعية الأدبية في
بيت المقدس والتي كان جيمس فن من مؤسسيها، افاد بان مكونات الرماد هي من بقايا حيوانية،
مستنتجا ان البقايا لحيوانات محروقة، وليست نباتية، واكد انها تحتوي على أجزاء
صغيرة جدا من العظام والاسنان المحترقة، مع صعوبة تحديد نوع وفصيلة الحيوانات
ومع ان نتائج التحليل اظهرت وجود كميات بنسب قليلة من حمض السيليسيك ، وهو
حمض يستحيل الحصول عليه في رماد اللحم والعظم ، لكن د روث افترض ان
حدوث نقل للرماد الناتج عن القرابين الحيوانية قد تم نقله الى الكومتين
الموجودتين من الأساس، ومع ذلك كرر الامر بأخذ عينات م أجزاء عميقة من الكومات، إضافة الى تحليل المياه المعدنية القريبة
من بحيرة طبريا،
قال جيمس فن في تعليقه على النتائج ان هذه النتائج الاثرية الهامة بالإضافة
الى تأكيد الأوامر المقدسة، فإنها تساهم في تحديد مسار الاسوار القديمة لبيت المقدس،
حيث ان الرماد ألقى في منطقة قريبة من اسوار المدينة، في افتراض الى ان اسوار
القدس قد تم تغير مواقعها في الأزمنة اللاحقة. في خطاب من وليام ديكسون بتاريخ
الخامس من أيار عام 1855 يشير الى حفريات تمت في الكومات ويفيد انها متجانسة ولم
تختلط باي تراب او حجارة او صلصال، في نفي لفكرة مخلفات الصابون، ثم العثور على
عظام او بقاياها، مخمنا انها لماعز او خروف وليس أي من سواها، مفترضا ان وادي
الرماد المذكور في سفر ارميا 31:40 هو موقع الكومتين بافتراض وجود واد تم طمره
بتراكم نفايات المدينة
ما زال البحث الاثري الفلسطيني، وخصوصا المهتم بالاركيولوجيا في بيت المقدس
بسيطا جدا مقارنة بالتحديات، ومازالت الادبيات العربية تتبنى كثيرا من
الاسرائيليات المنتشرة في الكتب، وحتى على المستوى السياسي، يقبع الاهتمام بالبحث
التاريخي والاركيولوجيا في اخر السلم، الخطير هو منح فرص للاحتلال او
اهدار فرص هي في الأساس داعمة
للرواية الانثروبولوجية والتاريخية الفلسطينية، والمقارنة بين الحادثتين أعلاه خير
مثال على الفجوة الهائلة.
اليهود لم يكونوا جزءا من النسيج الفلسطيني في يوم من الأيام...بشهادة نعوم تشومسكي الفيلسوف الأمريكي اليهودة الأكبر..في حوار طويل مع غسان بنجدو
ردحذفاليهود لم يكونوا جزءا من النسيج الفلسطيني في يوم من الأيام...بشهادة نعوم تشومسكي الفيلسوف الأمريكي اليهودي الأكبر..في حوار طويل مع غسان بنجدو
ردحذفوما هو النسيج الفلسطيني يا صديقي، وفد يهود الى فلسطين كما وفد مغاربة وسودانيين، وصاروا جزءا من هوية البلاد، وتبعا للمراحل السياسية كان عددهم يزيد وينقص
حذف