قراءة في كتاب صالح أبو لبن
اياد شماسنة /شاعر وروائي
انتشرت عادة كتابة
اليوميات في العالم منذ أمد بعيد، وأصبحت الرفيق الدائم لكثير من الأشخاص بين
الطبقة الوسطى والعليا، وكما يقول الثائر الكردي بولات جان، إنها الصديق الدائم
للثوار في الجبال والسجون ومناطق القتال، يكتبونها لأنفسهم أولا، ومن ثم تشكل كنزا
معلوماتيا لمن بعدهم، بضعهم ينشرها على الملأ لاحقا كما يفعل الكثير من السياسيين وآخرون
يحتفظون بها لأنفسهم، ويذكر أن كافكا الكاتب قد أوصى صديقه "ماكس برود" بحرق جميع أعماله
بعد موته، لكن هذا الصديق خان الوصية وقدم خدمة للأدب والقراء وأرسل المذكرات
للنشر .
وقد اشتهر تعريف
السيرة الذاتية الذي كتبه فيليب لوجون الإنشائي الفرنسي والمرجع العالمي الأول في
دراسة السيرة الذاتية، بأنه "المحكي
الاسترجاعي النثري الذي يقوم به شخص واقعي لوجوده الخاص،عندما يركّز على حياته
الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة."
يبدو أن الكاتب
صالح أبو لبن لا يستطيع أن يخيب ظن هذا التعريف، ولا ظن هؤلاء المبدعين والمناضلين
والمراقبين معا؛ ففي كتابه" أربعون يوما على الرصيف" الصادر عام 2016م
عن هيئة شؤون الأسرى والمحررين عبر شركة مؤسسة الأيام للطباعة، ضمن سلسلة أدب
السجون، في غلاف من تصميم الفنان عايد عرفة،
يستمر الأسير المحرر صالح أبو لبن في استثمار قوته الناعمة عبر قلمه، بعد
تاريخ نضالي طويل، يكتب من خيمة الاعتصام يوميات عن أربعين يوما على رصيف المخيم،
على عادة الرفاق اليساريين، كما يقول الكاتب والثائر الكردي بولات جان، ويستمر في
توثيق اللحظات والتفاصيل التي تمس الخاص وتتقاطع مع العام في نفس الوقت.
يمارس صالح أبو لبن
في كتاباته: البوح، الاعتراف،النقد، المراجعة الذاتية، تقصي الاسباب والدوافع
والاتجاهات، التحليل السياسي، التأمل ورصد التحولات من خلال التفاصيل والمتغيرات
المختلفة في العمل المقاوم، يقيس الحدث النضالي السابق بالحالي، ويحلل الاثنين
معا. ويقارن الزمن المشتبك بالزمن غير المشتبك، والفعل الثوري بالفعل الفوري،
والحال المؤمن بالحال الكافر ، والإخفاق بالإخفاق
في كتاب اليوميات"أربعون يوما على
الرصيف" يقدم الكاتب مادة ثرية تاريخية وواقعيه هامة جدا، يقدم كنزا
معلوماتيا بالغ الأهمية من نواحي التاريخ والتوثيق والعمل النضالي واستخلاص العبر
، ويقدم مقارنات عن قرب بين حدثين متشابهين في الفعل مختلفين في التوقيت والأهداف
وهما الإضراب الجماعي للأسرى الفلسطينيين عام.1981 والإضراب الثاني عام 2015،
حيث أعلن الأسرى الفلسطينيون في الإضراب الأول في سجن نفحة إضرابا مفتوحا عن
الطعام هز إدارة السجون، واستمر أياما طويلة تحت أهداف محددة بالاضافة الى استعراض مفاصل اخرى مشابهة في
تجارب الحركة الاسيرة في المعتقلات منذ العام 1967م.
ب كان الإضراب الثاني عام2015 إضرابا فرديا عن الطعام قام به مجموعة من الأسرى
، وكان الهدف مشوشا .واقتصر على نضال فريدة لمجموعة من المناضلين أرادوا كسر سياسة
الاعتقال الإداري التي تمارسها المعتقلات الإسرائيلية، وكان خيمة الرصيف تضامنا
شعبيا معهم.
كتاب صالح أبو لبن الذي كتب تقديمه
وزير شؤون الأسرى عيسى قراقع، وتم إطلاقه في المركز الروسي للثقافة والعلوم بالقرب
من مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين ورصيف الخيمة. هو الكتاب الثاني(بعد رواية
البيت الثالث) للأسير الحر والمناضل الذي خاض بنفسه إضراب الأسرى، بكل قسوته وقسوة
سجانه، تلقى التغذية القسرية بالأنبوب الإجباري مع رفاقه، وعانى خطورة اقتحام
الجهاز الهضمي وتهالك العضلات والجسد المتعب، شعر بالآلام يوما بيوم وساعة بساعة،
وعرف ما يتحدث عنه حرفيا، وعندما جلس يعدد أيام الاعتصام المساند للمضربين عن الطعام
في نضالهم ضد سياسة الملف الأسود والاعتقال الإداري من قبل العدو.، ومن خلال
يومياته يوفر صورة حية مشحونة بالاوجاع والعوطف لتجربة ذاتية عاشها مع رفاق
الاضراب والاعنقال.
في يومياته من رصيف مخيم الدهيشة
يحتك أبو لبن بالمهمشين والنخبويين، المناضلين والخانعين، الموالين والمعارضين، من
اليسار والوسط واليمين، يمتعض للغياب عن الخيمة ويفرح بالحضور، يلتمس العذر لمن
تأخر ومن نكص ومن توانى ويذكر الأسباب، يلوم ويعاتب ويناقش التغيرات ويرصد
التحولات التي طرأت على المجتمع الفلسطيني، أفرادا وقبائل وأحزاب، يتابع
اهتماماتهم ويقارن بين المواقف والأوجاع والآلام والأهداف، يزن الأمور داخل الخيمة
وخارجه ويوثق اللحظات والوجوه عبر قائمة طويلة من الأسماء وكأنه يخشى أن يحرم شرف
الانضمام إلى باقة الأسماء احد ممن مر بالخيمة أو حضر الاعتصام، من التزم الصمت في
حضوره ومن تحدث بالخطابات بين شعارات ومواقف محسوبة، بين دعاية فصائلية وبين مواقف
صادقة، بالإضافة إلى تطورات الخيمة ذاتها من هيكل وامتداد، وسلوك أفراد، وتعليق
ملصقات ثم تغيرها من العام المحايد إلى الفصائلي الخاص.
تكمن خطورة ما اقترفه صالح أبو
لبن من سابقة في الكتاب من الرصيف بهدوء الحكيم وعين الرقيب وهمة العارف، انه يسجل
تفاصيل اجتماعية وسياسية وعلمية وتاريخية في وثيقة موقعة بقلمه، يقدمها وزير شؤون الأسرى،
وهي بذلك تتحول إلى وثيقة شهادة على المستوى الاجتماعي والمستوى السياسي والعلمي،
تصلح لعلم الاجتماع، والسياسة، والعلاقات الاجتماعية، وعلم النفس الاجتماعي،
والعسكري، والسياسي، لا يمكن المرور عنها لأي مهتم بالشأن الفلسطيني، وأي متابع
لتطور حالة المخيم الفلسطيني ومركزيته في الحركة السياسة الفلسطينية، وما صنعه
اللاجئ الفلسطيني من فكر وتنمية واقتصاد عبر ألاف العصاميين الذين حملوا وطنهم في
قلوبهم واجترحوا ما يشبه المعجزات فكدسوا آلاف الخبرات والأسماء الخبيرة التي تحتل
مواقع هامة في المحافظة والوطن في مختلف التخصصات والمواقع.
بالإضافة إلى تلمسه وتشخيصه
الدقيق لمواقع الخلل ومواطن الضعف وأسباب الإخفاق، لا يخفى انتقاده وملامته، ولا
يبالغ في اعتزازه ومديحه، وبذلك توفِّر اليوميات مادة أرشيفية غنية للدارسين في
حقول معرفية متعددة بينما يمارس الكاتب عيبا واحدا كل مرة وهو انه يكشف كل شيء على
الملأ ولا يتردد في البوح والاعتراف بكل شيء، كل شيء، واهم الأشياء هو: لماذا ما
زلنا نراوح تحت الاحتلال ولسنا على قلب رجل واحد، تفرقنا الفصائل والعصبيات
وتجمعنا فلسطين؟
تتمتع كتابة صالح أبو لبن
ليومياته بتلقائية؛ لأنها نتيجة لوازع حميم، وعلاقة مباشرة مع الموضوع الذي
جربه في صباه، وعاد لمعاصرته وهو الخبير به المجرب لالامه ونجاحاته واخفاقاته،
ويتشكل سرده وتسجيله لليوميات في جمل واضحة، مباشرة، يخطئ حين يحاول إحصاء كل شيء،
كل المخيم، كل الأسماء، كل الأحداث لما لها من رمزية أو دلالة مباشرة في الموضوع وهو
يعرف أن كتابا واحدا لا يرصد كافة تفاصيل أربعين
يوما على رصيف المخيم، ومع ذلك لا يتهيب من قارئ، أو ناقد، أو سياسي أو قريب أو
بعيد. ويصر على ان يوفر راس خيط لكل من يرغب في التوسع لاحقا في البيحث عن
التفاصيل، ولو استمر هو بالتوسع لما انتهى الكتاب ولصارت الصفحات بالالاف.
ما زالت الفجوة في توثيق الشأن
الفلسطيني عبر كتابة يوميات بيد كتاب عاشوا الحدث، ومروا
بالمعاناة،ـ ما زالت المكتبة الفلسطينية تحتاج الكثير جدا من هذا النوع من الأدب
وخصوصا ما يكتب بقصد الوصول إلى القارئ لنقل المعرفة والخبرة والحقائق، أو تقديم
شهادات دقيقة ومفصلة مدعمة بالأسماء والأحداث، بعين الخبير وذاكرة الكبير، ومع أن
هناك العديد من الإصدارات قد وجدت طريقها إلى الكتاب منذ مدة إلا إنها تصنف بين
المذكرات التي تختلف نوعا ما عن المذكرات، أو تعتبر نوعا من التاريخ يميلها كاتبها
على من يصوغها بكتابة أدبية وهي تسد فجوة
في النقص الكبير في تلك الكتب ،ولذلك فان اليوميات التي تكتب من القاعدة أكثر ندرة
من الذهب، ولذلك يجوز أن يسجل كتاب" أربعون يوما على الرصيف سبقا وانجازا،
ولو تمت رعايته بشكل أكثر من ناحية الشكل
الفني والإخراجي لكان أيقونة إضافية فوق أيقونته المعرفية.
نشر في موقع قاب قوسين
http://www.qabaqaosayn.com/content/%D8%A3%D8%B1%D8%A8%D8%B9%D9%88%D9%86-%D9%8A%D9%88%D9%85%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B5%D9%8A%D9%81-%D9%84%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D9%84%D8%A8%D9%86-%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%BA%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%81
تعليقات
إرسال تعليق