التخطي إلى المحتوى الرئيسي

محمد برهان في رواية" بيت الكراهية" : السرد الذي يواجه الوباء


إياد شماسنة، شاعر وروائي فلسطيني
كثيرة هي الممارسات البشرية التي تبعث الأوبئة، وتخلق مناطق التوتر والانفجار بين البشر. وما زالت الأعمال الأدبية تقتحم المناطق الموبوءة من التاريخ والانثروبولوجيا، بعضها لديه شجاعة الاعتراف وبعض يملك وقاحة التبرير. ما زال الكثيرون من كتاب الأدب وشعرائه الملتزمين بالسياسة الحكومية وبالأيديولوجيات يتحفظون على الخوض في تلك الأمكنة، بحجة عدم" نشر الغسيل الوسخ"، ويبقى القوي لا يملك شجاعة الاعتراف بالخطأ، الاعتذار عما يباركه بسكوته، والضحية الموجوعة لا تملك القدرة على المغفرة ولا تستطيع أن تكافئ الساكت عن الحق بالتسامح، ويبقى الحال قابلا للانفجار في أول ظرف.
تطرق الروائيون إلى ثيمة "الكراهية" في الأدب العالمي والعربي، مثل الكاتب السوري خالد خليفة في روايته" مديح الكراهية"[1]، وتطرقوا إلى أفعال الكراهية ودواعيها وأشكالها؛ مثل محاكم التفتيش كما تحدث واسيني الأعرج في سيرة المنتهى[2]، وجلبيرت سنويه في رواية اللوح الأزرق[3] الذي ركز على الحوار والتسامح كشرط لاستمرار الحضارة البشرية.
 في " بيت الكراهية"؛ يعيد الروائي السوري محمد برهان النقاش إلى جذوره لبحث أساس المشكلة المتفجرة، وكأنه يؤكد إن لكل فعل رد فعل، وكل كراهية قديمة ستكون باعثا لكراهية جديدة؛ إن لم تتم معالجته. ومن الواضح، ومما أشارت اليه النتائج في الرواية؛ إن تفكيك قنبلة الكراهية مفقود حتى الآن، كما هي مفقودة شجاعة الاعتراف بوجود الكراهية ذاتها، و كما نفتقد العدالة في تجريم الكراهية..
صدرت رواية بيت الكراهية عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان، 2016، في 209 صفحات من القطع المتوسط، وهي العمل الروائي الثالث للروائي محمد برهان بعد كاهن الخطيئة(2011)، وعطار القلوب(2014)[4]. يعود الكاتب إلى خمسمائة عام مضت، هي الفترة التي جرت فيها محاكم التفتيش الاسبانية (الكنسية)[5]التي أنشئت بتزكية الكنيسة الكاثوليكية وأتباعها، ونفذت تحت إشرافهم، وتم اختراع أدوات التعذيب بمباركتهم بدءا من تقطيع الأعضاء بالأدوات الحادة وصولا إلى الحمار الاسباني الذي يمزق تمزيقا.
تقوم الرواية على حكاية داخلية تاريخية، وحكاية خارجية معاصرة. تعود الحكاية التاريخية إلى المناظرات والحوار غير المتكافئ بين الكاردينال فرانشيسكو خيمينيث دي ثيسنروس(1436-1517م) والكاردينال فراي ايرناندو دي طلبيرة كبير كرادلة غرناطة. كان الأول أمين سر الملكة إيزابيل وكبير المفتشين في محاكم التفتيش والثاني كاردينال من غرناطة له اتباعه وكنيسته.
أراد ثيسنروس الإسراع في التنصير التام لكل من المسلمين واليهود ومن أسماهم بالزنادقة، وهم من النصارى غير الملتزمين كاثوليكيا، وأتباع المذاهب الدينية التي لا يرضى عنها، كما سبق وحدث مع فرسان الهيكل بعد الحروب الصليبية. يؤيد الكاردينال طلبيرة التنصير أيضا؛ إلا انه يريد له أن يسير على مهله بالوعظ والإرشاد تحت سيف الكاثوليك المشرع، والقرار الملكي الذي ينقض الاتفاق الذي جرى على أساسه تسليم غرناطة عام 1492م التي شملت وفق الشروط الإسلامية كافة أهل الذمة بما فيهم اليهود[6]. فشل دي طلبيرة في كسب الحوار وفشل في الحوار ذاته، واستخدم دي ثيسنروس سياسة الترهيب والتخوين والهجوم لقمع رأي نظيره الكنسي.[7]
الحكاية الثانية التي تقوم عليها الرواية هي حول لجنة أكاديميةخاصة جدا دعتها وزارة الثقافة في الحكومة الاسبانية،مكونة من " زكريا العربي، أيلينا اليهودية،البروفيسور ماثيو الاسباني، بإدارة وإشراف البروفيسور باسيلو، يتحاورون في اجتماع سري بإشراف الحكومة الاسبانية، بمقابل مادي مجزي للبت في مصير المخطوطات التي تم العثور عليها كمحاضر للمناظرات بين الكاردينالين في غرناطة. يجري الحوار في حالة استقطاب حاد، فعل ورد فعل.
 يتم التعليق على أحداث يومية ومقارنتها بالماضي، تمر أمام المجتمعين أحداث إعدام "تنظيم الدولة" للرهائن الأقباط في سرت الليبية على الشاطئ وأمام الناس. يقول أحد المشاركين إن المسلمين يصدرون الإرهاب والعنف للعالم، يرد الآخر إن الإرهاب يولد الإرهاب، ويؤكد على إمكانية تعداد أدوات القمع التي صدرتها الكراهية للعام مثل الحمار الاسباني، تمر بالرواية أحداث دموية وكارثية مثل مزاد بيع العذارى الدموي، ومحرقة الكتب التي وصل عددها في الإحصاءات المتعاطفة مع ثيسنروس إلى ثمانين ألفا على اقل تقدير [8]، يتجه الحوار إلى إن الإرهاب يولد الإرهاب والكراهية تبعث الكراهية، ليخلص إلى نتيجة مفادها إن كل عقل متطرف هو أصل الحكاية، ومع ذلك لا يصلون إلى أصل التطرف وجذوره.
يستعرض محمد برهان ما يمكن تسميته بالتاريخ العائلي للشخصيات، وهو التاريخ الذي يراكم آلاما تنتقل بالعدوى من جيل إلى جيل وهي تحمل شحنة النقمة والأسى، ايلينا اليهودية المعتدلة التي " تدخل الأربعين بكامل مشمشها"؛(ص) ونجاة  عائلتها من "اوشفيتز النازي" وبقاء الجدة للموت، المرضى بالتيفوئيد الذين يتم إلقاؤهم في البحر(ص 15،16)، زكريا وكتابه الشهير: تاريخ المحبة( ص23)، واعتبار الفتح الإسلامي للأندلس احتلالا، والفرق بين الرؤية العربية والإسلامية بين الفتح والغزو والاحتلال، وسبعون سنة من الصراع، وماتيو الممتلئ بعنجهية المنتصر، والممتلئ بدماغ استعلائي لا يرى إلا حضارته الغربية صاحبة الفضل في تاريخ العالم، بالاضافة إلى التعميمات والتنميطات الجاهزة فيما يتعلق بنظرته الى الاخرين" زكريا فظ ككل من عرفه من العرب(ص 44)، وايلينا "هدف غير سهل مع انه مرجح بقوة للدخول الى قائمته القصيرة"(ص 44). والرد السريع مثل رصاصة " يقول لزكريا ص44 " ملامحك الشرق اوسطية تذكرني بربيع عثمان وتفجيرات محطة قطارات " اوتشا رينفي".
يمارس محمد برهان في بيت الكراهية سردا ممتعا وانسيابية جميلة، يستخدم مجموعة من تقنيات السرد والاسترجاع، تتولى الأحداث بانتقال سلس، تتقارب شخصيات الرواية وتنو رويدا. بطولات طلبيرة في إنقاذ حي البيازين من القتل، إنقاذ ثيسنروس من الناقمين عليه، التذكير الدائم بمعاهدة تسليم غرناطة، وكيف نقضت بعد ذلك، زكريا العربي والينا اليهودية يتقاربان جسديا وجنسيا ثم فكريا مع بقاء التنافر الايدولوجيا القائم على أساس ديني، وخصوصا عند عودة النقاش إلى منطقة الخلاف الأساسية بينهما: (القدس_أورشليم). وهنا لا نستطيع أن نجتهد حول ماذا قصد الروائي بالعلاقة أكثر من كينونتها الغرائزية أو دلالة الحب والعاطفة لتقريب وجهات النظر، وانه يتجاوز الأزمات والكراهية إلى الحوار .
هناك اقتصاد كبير في التفاصيل، وخصوصا في الجوانب التي يحتاجها التوازن،فليست التفاصيل بكماليات عند الحديث عن تطهير شامل لحضارة كان لها الفضل في تخليص البلاد من حكم القوط الذين نكلوا بأهلها، تبدو الرواية ذات اتجاه تلفزيوني درامي، التتابع البصري للأحداث يجعلها قابلة للتحويل إلى عمل سينمائي جيد، هناك ومضات استرجاعية سريعة لتسليط الضوء على أحداث مفصلية في تاريخ الكراهية،كثير منها مؤلم ومربك، ربما يشفع لذلك إن الأحداث قد تم التطرق إليها عبر عدد من الأعمال الدرامية والأدبية . وإن الثيمة الأساسية ليست التاريخ المفصل بل الكراهية ذاتها والفجوة الشاسعة بين الكراهية والمحبة. مع ان بناء الشخصيات قد تعمق في التفاصيل حتى وصل الى فقه الجسد الشخصي عند ايلينا ودورتها الشهرية الاولى وعلاقتها الانسانية الجميلة مع " الديسك" دون " الشعب الذي قامت دولتها بتطهير عرقيا" واكتفت هي بالاعتدال العلماني كفضيلة وصلت اليها.
في نهاية بيت الكراهية يصل التوتر أشده؛ بما يثيره من جو موبوء، ومن استفزازات تثير الحنق، يجد المتحاورون الأكاديميون بالإجماع إن الحل مع المخطوطات التي تؤرخ لبيت الكراهية يكمن في التحفظ على المخطوطات في القصر الملك بأمر ملكي لا تغيره الحكومات. هو الحل الذي نملكه جميعا في الوقت الحالي، مادام القوي والظالم لا يملك شجاعة الاعتذار، وإن كان يعيدنا إلى فكرة الوصاية على التاريخ والتستر على المعضلات التي آن الأوان لتجاوزها بالاعتذار والتسامح،حتى خيار الأشخاص للبقاء لساعات إضافية للتمتع بروح المكان وعبق جماله تصبح مقيدة بانتهاء المهمة..
إن الرواية تشير ضمنيا إلى إننا حتى الآن على المستوى العالمي والمحلي غير جاهزين للحل الطبيعي وهو التسامح والاعتذار، فلا الحكومة الاسبانية تبادر بالاعتذار عن محاكم التفتيش التي جرت بحق الموريسكيين، كما فعل برد الاعتبار لليهود،[9] ولا الضحايا على استعداد لتجاوز الماضي مادام الجاني وخلفه يصرون على بطولة سلفهم في الإبادة والقهر وتوليد الكراهية.
يتم إغلاق بيت الكراهية تجنبا لإثارة المزيد من الكراهية، يؤكد الكاتب هنا إن كل متطرف يدفع آخر إلى التطرف، وكل كراهية تولد كراهية مضادة، الحب وحده كفيل بالتجاوز، هي شجاعة روائية في التناول، وثيمة متقدمة نحن بأمس الحاجة إلى إبداء الرأي فيها كعرب ومسلمين لنساهم في مضمار القيم التي تبعث الأمن والتعايش للعالم، رصانة سردية للروائي محمد برهان تضاف إلى رصيده الإبداعي وانجازه الروائي.



[1] خليفة، خالد(2006): مديح الكراهية، رواية، عن دار أميسا للنشر والتوزيع السورية – فرع بيروت، لبنان.
[2] الأعرج، واسيني(2014): سيرة المنتهى، رواية، صدرت عن دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، ونوفمبر 2014 مع مجلة دبي الثقافية ضمن سلسلة كتاب دبي الثقافية العدد 117 في جزئين.
[3] سبنويه، جيلبرت(2008 ): اللوح الأزرق، رواية، ترجمة ادم فتحي، منشورات دار الجمل ،كولونيا، ألمانيا.
[4] جميع الروايات صادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الأردن.
[5] عطيات ،أحمد(2012): الأندلس من السقوط إلى محاكم التفتيش، دار أمواج للنشر والتوزيع، عمان، الأردن.
[6] العامري، محمد بشير( 2011): دراسات حضارية في التاريخ الإسلامي، دار غيداء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن.
[7] مارياس، خوليان(2014): اسبانيا بشكل جلي، المنطق التاريخي للبلاد الإسلامية، ترجمة كمال المنوفي، دار الكتب للنشر والتوزيع، مصر .
[8] مكي، الطاهر احمد (1999م)/ دراسة في مصادر الأدب، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر.
[9] وكالة الاناضول(2015) : "قاتلوا اليهود" الاسباني" وازدواجية المعايير، مقال منشور على موقغ الجزيرة. نت، تم الوصول إليه في 30\10\2016 من الرابط http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2015/10/24/-

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

موسم النبي روبين في جنوب فلسطين بلدة ومقام النبي روبين عام 1935

حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان

الأولى   فنون حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان  2018-08-01 10:00:00 المصدر: موقع مؤسسة عبد المحسن القطان إياد شماسنة كاتب وشاعر من فلسطين  "أبعاد ذاتية" لمنال ديب في دار إسعاف النشاشيبي بالقدس حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان يستمر المعرض من 27 حزيران وحتى نهاية أيلول، في المبنى الرمادي الغامق على شكل مكعب، أعلى تلة في ضاحية الطيرة التي تتوسع نحو الريف، وتستمر رسالة المؤسسة في التنوير والمساهمة في تكوين وترسيخ ثقافة نقدية فلسطينية، ذاتية للبنية والمشروع السياسي، كما قال عبر الرحمن شبانة أحد القيمين على المعرض. عندما يرتبك المشروع السياسي، أو يغيب الضوء قليلاً عن الأفق الوطني، في ظل متغيرات قاهرة، تتراجع السلطة الحاكمة، تتخلى، أو يتم إجبارها على التخلي عن دورها الخدماتي، ويقتصر على التشريع والدفاع إن وجد، لصالح القطاع الخاص، أو بمشاركة ولو محدودة للقطاع الأهلي. في تلك التحولات؛ تتقدم الثقافة، ناقدة، تنويرية، مثيرة للأسئلة، باحثة عن ال...

رحلة ايفا شتال الى فلسطين عبر مخيم تل الزعتر

" حدود المنفى " (رحلة إيڤا شتّال إلى فلسطين عبر مخيّم تلّ الزعتر) جوتنبرج 14.01.19 أعزائي؛ سميرة وحسن عبادي لقد مر شهرٌ وأكثر منذ عودتنا من فلسطين، وما زلنا لم نستقر بعد. لا يتعلق الأمر بأننا لا نمتلك عائلة كبيرة (إنها لدينا)، والكثير من الأصدقاء (هم لدينا)، أو أن والدتي تبلغ من العمر (ما يقرب من 96 عامًا وتتمتع بصحة جيدة جدًا، ولكنها الآن سقطت وارتطم رأسها)، أو أنه لا توجد فرصة للحديث عن فلسطين؛ (نحن نفعل ذلك – فقد كتب نيستور(زوج إيڤا ح.ع.) نصًا ووضعه على الفيس بوك وكان هناك الكثير من التعليقات والمشاركات. لقد قدّمْتُ عرض باور بوينت متقدم وأنجزت الان حتى الآن 4 "لقاءات"، على سبيل المثال: اجتماعات مع الكثير من الأشخاص المهتمين) . لا، إنه شعور بأن الوقت يمر بسرعة كبيرة، ولا يمكننا العمل بشكل جيد بما يكفي لوقف آلة القتل الإسرائيلية من أجل استمرار الاحتلال . نحن نشعر بالحزن! إنه نوع من الاكتئاب، العجز. هذه هي الحقيقة، على الرغم من أننا رأيناك قوياً للغاية، وتستمر في القول: "هذه هي حياتنا" "هذا هو الاحتلال" أو "هذه هي إسرائيل "...