"فتحي البس" ينهل من شلال ينثال بالتفاصيل
قلم :إياد شماسنة/ شاعر وروائي
يقول الكاتب العراقي من أصول "كردية بولات"
جان في منشوره على موقع الحوار المتمدن, أن اليوميات هي الضيف الدائم في دفاتر كل الثوار،
أيًّا كانت مستوياتهم وخلفياتهم الثقافية والأدبية, ويضاف إلى ذلك أدب المذكرات
وفن السيرة الذاتية.
عندما نجول في حقول ذاكرة الأستاذ "فتحي البس"
المدونة في كتابه الصادر عن دار الشروق
للنشر والتوزيع/ عام (2008) والواقع في
(351) صفحة من القطع المتوسط، نجد أننا أمام شهادة يعيد سردها، تعيد تكوين صورة أربعين
عاما من عمر الثورة والمعاناة الشخصية والوطنية.
يقدم فتحي البس شهادة على زمنه وجيله والمجموعة الوطنية
التي انتمى إليها, وفي ذلك يكتب ما تتقاطع فيه ذاكرة المثقف مع ذاكرة شعبه، في وقت
يسمح بتعرية المسكوت عنه، وقول ما لم يكن بالإمكان قوله سابقا لظروف مختلفة؛ زال
بعضها الآن.
تعتمد لغة "فتحي البس" على المباشرة, الكلمات البسيطة,
الجمل القصيرة, الصراحة, الصدق, لأنه لا
يخاطب شخصيات وهمية بل بدأ بتكوين انثيال الذاكرة ليخاطب الجيل الذي يرغب بمعرفة
ما حدث بالضبط، وكيف ولِمَ حدث، دون تحيز. ومع ذلك تجد بين الصفحات كثير من
المواقف الطريفة واللحظات الإنسانية.
انتقل فتحي البس في حياته الحافلة منذ وصل الى المخيم
ودفاتر الصفيح التي جمعت اللاجئين عبر السنوات، الى أن أصبح رائدا في صناعة الكتاب.
وغير ذلك كله، نجد أن الشأن الخاص الشخصي يتداخل مع العالم حال الفلسطينيين جميعا,
ثم حال أهل الثورات في كل مكان.
في صفحات ذاكرته المنثالة يؤرخ الكاتب، من حيث لا يقصد، للحركة
الطلابية في الجامعة الأمريكية في بيروت, وخصوصا أن المرحلة البيروتية في فترة
الستينيات من القرن الماضي، كانت المختبر الذي انصهرت فيه الطاقات الشابة في سُلَّم النضال، كما قال الكاتب عبد الله
الفقاري،
عندما ينبش فتحي
البس ذاكرة جيله والثورة, فانه يرصد تأسيس المخيمات وتاريخ الشقاء, ومتزامنا مع بواكير
العمل السياسي, وتفتح القلوب شخصيا ووطنيا على الحب, الصعاب, الصراعات السياسية والاجتماعية،
وفي صدمة الانتقال الحضاري, وفي ذلك كله ينتقد البعض ممن تولوا زمام مراحل ما,
يعري سلوكياتهم المفتعلة دون مجاملة، ثم يضع يده الخارقة على أسباب الخلاف داخل الثورة
وتنظيماتها، وبالذات حركه فتح. وبذلك يتيح للقارئ أن يفهم كيف انتقلت الثورة من
الزمن الفدائي الى العهد العدائي والى المعارضة لمجرد المعارضة, وبذلك نتفق مع
الكاتب رشاد أبو سامر الذي اعتبر كتاب (انثيال الذاكرة) ضمن أهم الكتب التي دونت التجربة
الفلسطينية.
رغم الحياة الشخصية الحافلة بالعواطف للكاتب إلا انه
تركها جانبا مخصصا لها مساحات ضيقة, وتحدث عنها بجمل قصيرة, وإشارات مقتضبة؛ لا
تشفي الغليل ولا تقول إلا إيماء, لكن ذلك يدعو الى الظن أن الكاتب كان مهتما برصد
مفاصل التاريخ الثوري والسياسي اكتر من الشخصي, لأن القارئ قد يكون معنيا بالتجربة
الجمعية دون التجربة الخاصة في الحالة الفلسطينية.
حرص الكاتب أن يكتب حياته بلغة حيادية, واضحة المعالم
والدلالات, وابتعد كثيرا عن الذم والتحريض وإثارة النعرات السياسية أو الطائفية، وهذا
ما أكده قرار محكمة بداية عمان، ثم حكم محكمة الاستئناف بعد قرار حظر الكتاب ومنعه
في الأردن.
كتاب الأستاذ فتحي البس سبق وان نشر على حلقات في الحياة
الجديدة الفلسطينية عام (2008)، قبل أن يتم إصداره عن دار الشروق, ثم صدرت لاحقا
طبعة خاصة بعنوان نكهة الذاكرة على دار محمد علي المحامسي, ورغم أن العنوان الأول
غير ملفت للأنظار، إلا انه استطاع أن يمتلك من الحياد ما يجعله بمصداقية الكتب
التي تصلح أن تكون مرجعا لتلك الفترة المشتبكة.
يبقى كتاب "انثيال الذاكرة" بابًا مشرعًا على
خبايا وخفايا ومفاصل هامة, ويحسب له سبق الحديث والخوض في تفاصيل الحديث عن تأسيس السرية
الطلابية، التي أصبحت لاحقا تعرف باسم كتيبة الجرمق، والتي لعبت دورا هامًا في تلك
الفترة من الكفاح الفلسطيني. وهو بذالك ينفذ، عمليا وحرفيًا، مقولة فيرجينيا وولف
أنه" لا حدث يحدث بالفعل إذا لم يدون".
تعليقات
إرسال تعليق