فريضة
غائبة، أم تنمية ميتة!
إياد شماسنة
بناء مؤسسات وتنمية موارد بشرية
في السنة الثانية للهجرة
النبوية الشريفة، فرض الله الزكاة كركن
ثالث من أركان الإسلام، الحنيف وأوضح مقدارها ونصابها، ، فكان القول الصريح أن
الأركان التي تبدأ بالشهادتين، ستكون الزكاة ثالثها، وبذلك أصبحت الشهادتان
التزاما، والصلاة فريضة سلوكية، والزكاة عبادة مالية، كما غدت الزكاة الفريضة التي
تلي الصلاة من حيث الترتيب، ولا تقل عنها من حيث أثرها في بناء المجتمع. وتجلى ذلك
في الآيات والأحاديث، لا يفصل بينهما إلا حرف العطف الذي يفيد الترتيب والتعقيب،
فقال تعالى: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (لقمان: 31)،
كما قال تعالى:) (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَإنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (المائدة:
55(، وغيرها من الشواهد في الكتاب والسنة.
وقد جاء الأمر ربانيا. بقوله تعالى "خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"} التوبة:
103{، وذلك في الخطاب الإلهي إلى ولي الأمر
المكلف، فكان واضحا أن الموضوع في غاية الأهمية، وما دام الأمر قد اقترن بالصلاة،
سواء بالترتيب أو التعقيب أو الملازمة، فإن الدلالة واضحة بأن الزكاة ركن أساسي من
أركان الإسلام، وتغييبه أو التهاون في أمره هو تهاون في الدين، ووفق التعريف
بالزكاة، فقد جاء أنها حق تام لمن ينطبق عليه وصف مستحقي الزكاة ممن جاء في الآية
الكريمة، لقوله تعالى: (إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) التوبة: 60(، في مال من وجبت عليه فبلغ موضع الزكاة في
ماله نصاب الزكاة. وبالتالي؛ فإن إيتاء الزكاة هو تنفيذ لأمر الهي وإعطاء حق إلى
مستحقيه، وليس فضل يتفضل به غني على فقير أو محتاج أو عابر سبيل.
وما دامت مقاصد الشريعة الإسلامية تتلخص في الكليات
الخمس المختصرة في حفظ النفس، والعقل، والدين، والمال والنسل، فإنه يبدو جليا أن
فريضة الزكاة يجب أن يتم تطبيقها بطريقة منهجية، تحفظ مال من يخرج الزكاة؛ فلا
يرهق ولا يزهق ولا يبتلى بتكديس المال دون نفع للمسلمين، بشكل يخلق التحاسد
والتباغض، ويخلق الفوارق الكبيرة بين الناس، كما أن من الضرورة أن يتم إخراج المال
إلى مستحقيه بطريق تسد الحاجات الأساسية للمحتاجين، دون أن تضطرهم إلى التسول أو
الاستجداء على أبواب اللجان في مختلف مناطق توزيع الزكاة وانتشار صناديقها الفرعية،
وذلك من اجل استكمال الحد الأدنى من الدخل الذي يكاد يضمن حياة تليق بإنسان يعيش
بين المسلمين.
النتيجة الأولى التي تتحقق بالزكاة هي نماء المال المسلم،
سواء بفعل الطهارة المالية التي يخلقها خروج المال الذي هو من حق مستحقي الزكاة، أو
ببركة الطاعة والثواب نتيجة تأدية الفريضة، أو بتداول المال بين أيدي المسلمين مما
يخلق استهلاكا وتبادلا، وتفعيلا للإنتاج، وتحريكا للاقتصاد بشكل يجنب البلد المسلم
الركود الاقتصادي والكساد، ثم إن الزكاة تؤدي إلى تحقيق التكافل في مجتمع يتمتع بأخلاق
المسلمين، مما يؤدي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية عندما يجد الإنسان شروطا وظروفا
للحياة تليق بكرامته وحقوقه، وصولا إلى الأمن الاجتماعي عندما يضطر من "لا
يجد القوت في بيته أن لا يخرج على الناس شاهرا سيفه" كما قال الصحابي الجليل
أبو ذر الغفاري.
إن المهتم بأمور تنمية البلاد الإسلامية لينظر بعين
الخبير إلى حالة الزكاة، ويعرف دون شك إن غيابها كارثي على البلاد الإسلامية، فهو بالإضافة
إلى تغييب فريضة أساسية، وركن من أركان الإسلام، قاتل الخليفة أبو بكر الصديق عليه
المرتدين في حروبه ضدهم، فإن الباعث على الدفع باتجاه ركود اقتصادي لا يتم التغلب
عليه إلا بتسييل المال بين الأيدي، وهو الحل الذي لجأ إليه الأمريكان في سنوات الكساد
العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي كانت تسمى سنوات الغبار.
في واقعنا المجتمعي، يبدو حال فريضة الزكاة مريرا، فهو
يتوزع بين الآلاف من اللجان التطوعية التي تعتمد على مكانة عضو لجنة صندوق الزكاة
الفرعي، ومهارته الشخصية في جمع المال وإنفاقه، وهنا تبرز الحاجة الماسة لبرنامج
عملي احترافي يقوم بإعداد متفرغين مؤهلين بدوام كامل او جزئي، ووصف وظيفي محدد لإدارة
شؤون الزكاة؛ بالتحصيل والإنفاق وتحديد دقيق وذكي للمزكين وللمستحقين، وقد ظهرت
تجربة دولة ماليزيا ناجحة جدا في هذا المضمار .
هناك حاجة ماسّة إلى توعية إعلامية، بطرق مختلفة ومتعددة،
للتعريف بمكانة الزكاة وأهميتها وواجب إخراجها وإثم عدم إخراجها، وان منعها هو
اعتداء على الدين إن كان إنكارا، وتقصيرا إن كان السبب تقصيرا، ثم جمع المال
مركزيا في حساب موحد، وذلك بإنشاء بيت مال للزكاة على المستوى الوطني يرأسه عدد من
العلماء والخبراء في الاقتصاد الإسلامي والشريعة، وقد بدأت جمهورية مصر العربية تجربة
في هذا المجال، ونتائجها قيد الانتظار .
من الضرورة بمكان خضوع بيت مال الزكاة والصدقات لمراجعة
محاسبية شفافة، تؤكد على نقاء وطهارة ومنهجية تطبيق الفريضة بشكل يحقق كرامة الإنسان،
بما يضمن حقوق الأطفال، ويصونهم عن التسول، ويكفي الأرامل والنساء من المحتاجين، والمؤلفة
قلوبهم شر التسول والاستجداء والتزاحم والتصارع، أحيانا على أبواب اللجان المختلفة،
بما يسئ لهم ولوصية الرسول ﷺ بهم.
نحتاج إلى نظام حاسوبي متكامل تصممه، وفق الاحتياجات
والمقترحات، شركة خبيرة في تكنولوجيا المعلومات، يقوم على قاعدة بيانات متكاملة وواضحة
ومنظمة لكل مستفيد من مستحقي الزكاة على مستوى الوطن، بحيث تتحقق العدالة في
التوزيع والشفافية في الجمع والإنفاق، كما ونحتاج إلى الخروج من الزي التقليدي للتحصيل
والتوزيع، واستخدام طرق حديثة وعصرية، كتأمين المستفيدين من الزكاة صحيا وتعليميا
واستهلاكيا؛ عبر منحهم بطاقات محسوبة آمنة مثل بطاقات شركات التامين المحوسبة، أو
البنوك، بحيث تحفظ كرامة حاملها وتضمن تحقيق الأهداف بشكل يرضى عنه الله ورسوله.
كما أنه من الضرورة بمكان استثمار وتنمية الفائض من
المال الخيري، وخصوصا عندما ينضم إليه الصدقة الجارية والتبرعات، والسهم الخيري، والأوقاف
الإسلامية، و الكفالات للأيتام وغيرهم، عند ذلك تتضافر أموال الخير في مواجهة
الربا والتضخم الاقتصادي الذي يجعل دول المسلمين دائمة المعاناة، وبحاجة إلى البنك
الدولي.
تحتاج الزكاة ومنهجية جمعها وإنفاقها واستثمارها، وفق
نظام حديث، إلى إرادة سياسية بدءًا من دعم فخامة الرئيس؛ عبر إصداره القرار الداعم
لهذا التوجه، ومن ثم تبني معالي وزير الأوقاف، وقوة في التنفيذ من قبل الوزارة
ذاتها، والمشاركة مع المؤسسات الأخرى للدولة التي تتعامل بالمال، وتقدم الاستشارات
أو الخبرات، مثل: الغرف التجارية ووزارة الداخلية والصحة والتعليم، إضافة إلى قطاع
التكنولوجيا، لأن التكنولوجيا هي الجانب المحايد الذي يضمن عدم التحيز الجهوي أو الحزبي
لأي مستحق أو ضده، وفق خطة متكاملة الأركان تبدأ برؤية شاملة لفريضة الزكاة وموقعها
في الوطن.
إن مأسسة الزكاة والوقف والصدقات ثم استثمار الفائض منها
في مشاريع ذات نسبة مخاطر استثمارية متدنية، كقطاع العقارات وخصوصا في أماكن تحتاج
التنمية العمرانية، والتعليم الذي يواجه حاجة إلى التنمية، وإيداع المال في حساب
مركزي باسم بيت المال، لهو تأمين حقيقي ضد الفقر، هذه المشكلة التي تقهر العالم
كله، وبسببها تقوم حروب وتسقط حكومات وتزهق أرواح، وتهدر الكرامة الإنسانية.
بقي أن يضمن ولي الأمر المسؤول عن الزكاة أن لا يتم
التعامل مع أية مؤسسة لا تخرج زكاة أموالها، وخصوصا تلك المسماة بالإسلامية من الشركات
والعقارات والمؤسسات وبالذات ما اصطلح على تسميته "بالبنوك الإسلامية " التي
قد تكون وعاءً لإيداع أموال الزكاة وإدارتها.
إن معالي وزير الأوقاف هو المسؤول الأول عن تنفيذ الأمر الإلهي
"خذ من أموالهم" بالطريقة الشرعية المناسبة، والمتلائمة مع تطور الحاجات
وتنوع وتطور طرق التواصل، وهو بالتأكيد يحتاج إلى معونة ومشورة من أهل المعرفة
والخبرة، وأصحاب الأفكار المبتكرة للتيسير على الناس، وحفظ كرامتهم بما يحقق مقاصد
الشريعة، وهو مدعو إلى طرح الأمر بالطرق التي تضمن إحياء الفريضة المتروكة لأمزجة
أصحاب المال وضمائرهم وتقديرهم، ولا أعتقد أن هناك من يبخل بالمساهمة في إحياء هذه
الفريضة التي تسهم في رضا الله ورسوله وفي تحقيق التنمية المستدامة للمسلمين.
تعليقات
إرسال تعليق