قراءة: إياد شماسنة
الطنطورة التي تنتسب إليها رواية رضوى عاشور؛ هي قرية
واقعة على الساحل الفلسطيني جنوب حيفا، على بعد 25 كم، وترتفع 25 مترا عن سطح
البحر، وقعت فيها مجزرة كبيرة راح
ضحيتها نحو 200 شخص في 22 أيار عام 1948 م
على يد العصابات الصهيونية.
تم الكشف عن مجزرة الطنطورة على يد الباحث الإسرائيلي
تيودور كاتس، (صحيفة معاريف الإسرائيلية 21/1/2000) وذلك في رسالة ماجستير مقدمة الى جامعة حيفا عام
1998، وقد تعرض الباحث لحملة تشهير من قبل وحدة الكسندروني بعد انتشار الخبر ، ثم سحبت جامعة حيفا اعترافها
بالرسالة بعد الضجة الإعلامية (nkba.ps).
وقد كتب الدكتور ايلان بابيه والذي يرأس قسم العلاقات
الدولية في جامعة حيفا، في أعقاب قرار المحكمة الإسرائيلية بحظر نشر دراسة كاتس
مقالا،أكد فيه وقوع مجزرة الطنطورة والمعطيات الواردة في دراسة كاتس وخصوصا سقوط أكثر
من مئتي فلسطيني من سكان هذه القرية.
رواية د رضوى عاشور صادرة عن دار الشروق عام 2010 ،في
463 صفحة وقد صدرت أيضا باللغة الانجليزية
بعنوان"امرأة من الطنطورة" من منشورات الجامعة الأمريكية في القاهرة ،
كما في (amazon.com).
تقول كاتبة الرواية الفلسطينية، بقلم مصري ومشاعر
فلسطينية: "لولا أربعين عاما مع مريد
لما تجرأت على كتابة "الطنطورية"". يعني ذلك خبرة عميقة ومعرفة عن
قرب بالألم وطرق التنفس الفلسطيني، ودليل
ذلك أن الكاتبة استخدمت اللغة العامية مع الفصحى في الحوار بما يشبه السهل الممتنع،
إضافة الى تعابير شعبية لا يتقنها من لم يكن فلسطينيا، بقلبه، بعيدا عن توزيع
الجنسيات على طريقة سايكس بيكو.
في نتيجة الخبرة الحياتية كان هناك راوٍ داخلي يعيد
كتابة الأحداث بثقافته وخبرته في الحياة ، وكانت اللغة متناسبة تماما مع تكوين
الشخصية التي تولت الرواية الداخلية التي تجسدت في الشخصية الأكثر حضورا في
الرواية وهي "رقية الطنطورية".
وجد في آخر الرواية
قاموس للتعريف بالمفردات الشعبية الفلسطينية، مما وشى بمعرفة وخبرة بحثية
متمكنة بالإضافة إلى الإبداع الروائي، وكذلك تأثر متبادل بين البحث العلمي
والإبداع الأدبي للدكتورة رضوى .
وقد تلاقت الشخصيتان اللتان بَنَتا الرواية: " رضوى
ورقية " وتمايزتا، لذلك يلاحظ كثيرا تلاقي "رقية الطنطورية" في
براعتها السردية مع رضوى عاشور الراوية المحترفة، وهنا تتحالف الشخصيات في تكوين عمل مشوق ، موجع ، مفخخ بالخبرات المؤلمة
وبالأمل والأشواك ، وبالحرص على الاستمرار في الحياة. وقد نجحت رضوى عبر شخصياتها
المتعددة، وشخصية رقية في تخليد اللحظات، وتوضيح الصورة، وتمرير تيار مستمر من الوعي(على المستويين :الأدبي
والسيكولوجي) عبر الرواية، هذا التيار لا ينفصل حتى عندما يتولى طرف آخر دور السرد
مكان رقية؛ ليقدم شهادته الخاصة كشاهد عيان، حيث أن رقية
تتحول الى نقطة مرجعية نيابة عن رضوى، فهي التي تروي وتستمر في الرواية،
وان كان الحديث لغيرها، وتقوم بتمرير تيار الوعي بين ثلاثة أجيال ،ثم الى الجيل
الرابع.
تقول بيان الحوت
أن رضوى عاشور "خلقت رقية لتحكي
" ولذلك حكت رقية عن الشاطئ والبحر ، والبئر ، والبيت ، والمخيم والنباتات
الخضراء، والأغاني القديمة، بناء على رغبة ابنها حسن. ورغم أن رقية تكاد تكون
الشخصية المحورية التي تحمل الرواية إلا أن
هناك بطولة أخرى رمزية تتلخص في المفتاح المعلق في العنق ، بدءا من عنق والدة
رقية التي أغلقت الباب بسبع دورات من المفتاح بما يحمل الرقم سبعة من دلالة مقدسة،
ثم عبورا الى الأجيال، ثم اكتشاف أن هناك العشرات ممن لا زلن يعلقن المفتاح في أعناقهن
حتى يتآكل الحبل . لكن الحبل لا يسقط ، بل يتم استبدال الحبل بحبل جديد .
وتؤكد بيان
الحوت مرة أخرى انه لا يوجد أبطال بالمعنى التقليدي في رواية الطنطورية ، بل إن
البطولة جماعية لأنها تروي حكاية لجوء شعب، وان الجميع فيها لاجئون . وبذلك؛ فان
الرواية بتفاعل شخصياتها ومساهماتهم في
تكوين عالمها الخاص ،تقوم على جوهر يتلخص في مجموعة من الثوابت والقيم تبدأ ثم تؤسس لتطور الوعي ، واثبات الذات
والمحافظة على حق الحياة بدءا من ذل اللجوء وصولا الى عنفوان الثورة. واعدة
الاعتبار مرحليا للفلسطيني الذي يحب الحياة ويعيد تكوينها أينما استقرت بذوره.
الجديد في سرد رضوى عاشور أنها تجمع، بإتقان، بين
التاريخي والمتخيّل، بين الروائي والمحكي، وشهادات العيان، والأخبار الرسمية، كل
ذلك يأتلف معا، دون المساس بالرواية وتكوينها الفني، مع الإشارة الى أن الرواية لا
تنفصل عن التاريخ في جميع لحظاتها كواقع معاش، حتى لو كان تاريخا خاصا، أو كان تاريخا
متقاطعا مع التاريخ العام أو متفاعلا مع شخصيات تاريخية مثل " أنيس صايغ ،
معروف سعد، أو صديقا لناجي العلي، أو معجبا بكتابات غسان كنفاني، وتفسر رضوى عاشور
ذلك بقولها: "أميل إلى أسلوب يضفر
التاريخي بالمتخيل من اجل رسالة أريد
أن أؤديها " ويوافق ذلك ما قاله ألبير كامو حين يقول أن "الرواية ليست إلا
فلسفة تم تصويرها"، ويبدو أن فلسفة
رضوى ورسالتها بالدرجة الأولى هي استرداد
فلسطين وطنطورتها بصريا وابداعيا
بشجرها وأرضها وبحرها .
من الملاحظ أن رضوى عاشور في روايتها الأشهر "ثلاثية غرناطة "
ثم لاحقا في "الطنطورية" تكتب مرتين عن الأندلس المفقود، وعن فلسطين
التي ضاعت، وفي المرتين تمنح البطولة الى امرأة، وفي المرتين يكون الرمز متبادلا،
وفي المرتين أيضا تزاوج بين التاريخي والتخيل، ورغم التسلسل المرن في الرواية للأحداث عبر الزمن، إلا
أن الرواية في الطنطورية تكسر حدود الزمان
والمكان معا من خلال تنقل الراوية الداخلية بمرونة في طرقات السرد وإعادة الرواية أو استباق الإحداث
والذهاب الى الأمام ، وذلك بالتأكيد لم يتسبب في
أي خلل في المفاصل الأساسية أو
تدفق السرد، حيث تستمر الحياة، ويستمر العطاء ، وتبقى الراويتان ترويان وتحكيان؛ لأن
لهما يدا خضراء. حتى تجد في النهاية أن
رضوى توحدت مع رقية تماما فباتت تكتب من قلب رقية لا بقلم رضوى مثلما فعلت
مع ثلاثيتها العظيمة ثلاثية غرناطة، كما قالت القاصة والروائية رباب كساب.
ورغم الألم الذي تحمله الشخصية الأساسية
"رقية" ورغم الإرث الثقيل ، والصدمات الكبرى التي تحملتها؛إلا أنها بقيت
شخصية متوازنة ، نامية ، تحمل صرتها من
الحكايات كما حملتها منذ اللجوء ، وتنقل
بقلمها حكايتها استجابة لطلب ابنها الباحث "حسن".
تقول رباب
كساب، أن الرواية تحمل المتعة والمعرفة ممزوجة بالدموع بالألم ، وتؤكد أنها عمل
صنعته يد ماهرة، محبة أهدته لحبيبها وشريكها، وتؤكد كسّاب أن السرد يجعلك تشعر بأنك جزء لا يتجزأ من
الحكاية، ووجه من ضمن الحاضرين ، بحيث تتمكن من جعلك تشاركها اللحظات وتشاهدها رأي
العين، وربما تشاركها الوجع والبكاء.
بصراحة ، ما كنت أريد لهذه الرواية أن تنتهي، تمنيت عند الصفحات الأخيرة أن تظل رقية تحكي وتحكي، ولا تتوقف عن الحكي إلا عند أمرين : قضاء الله باسترداد أمانته ، او انتهاء الحكاية والعودة .
بصراحة ، ما كنت أريد لهذه الرواية أن تنتهي، تمنيت عند الصفحات الأخيرة أن تظل رقية تحكي وتحكي، ولا تتوقف عن الحكي إلا عند أمرين : قضاء الله باسترداد أمانته ، او انتهاء الحكاية والعودة .
أخير
،فان رواية الطنطورية رواية فلسطينية بقلم مصري، خبير ، له انتماء وقلب فلسطينيان،
تابعت العائلة التي نجا بعضها من مذبحة، ومرت من بين أكوام الجثث لتنبت من جديد في
لبنان، وتجتاز النكبات المتتالية، ثم تتفرع الشجرة لتورق في تونس والجزائر والخليج
وتشرب من ماء الإسكندرية، ثم تسترد فلسطين عير إعادة الحكي، ثم الاستمرار به،
متجاوزا التقليد في تتابع الزمن دون الإخلال بانسيابية الأحداث ومرونة المشاهد،
تقارب بين وجهات النظر وتجتمع على مجموعة من الرموز والقيم والثوابت، ويبدو أن
الروائية صاحب يد خضراء كما نساء روايتها، فاستطاعت في بضع مئات من الصفحات أن
توجز الحكاية بكامل ثقلها، لتجعلها تتلبس
قارئها حتى الصفحة الأخيرة ، بحيث لا يتعافى منها إلا بعدما يستوعب ما جرى ويؤمن
بالحلم الفلسطيني في الأرض والتاريخ والعودة.
تعليقات
إرسال تعليق