التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قراءة في رواية (366) لأمير تاج السر

قراءة في رواية (366) لأمير تاج السر: اللعب في قوالب فنية محكمة البناء الزمني والمكاني

إياد شماسنة

Oct 23, 2014
في قراءة لرواية الروائي السوداني، أمير تاج السر، شعرت أني خسرت شيئا ثمينا بمجرد إنهاء الصفحة الأخيرة ، فلا زال بي شغف لمتابعة مصائر بقية الشخصيات، وبي تعاطف مع السياق رغم النهج السردي الواضح الذي قامت فيه الشخصيات بجر كاتبها فيه، كما قررت هي واختار مصيرها.
تحتل الرواية اسم (366) في صيغة مختلفة عن النسق المعهود في تسمية الروايات لدلالة يكتشفها القارئ في الرواية الجميلة الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، والمختارة ضمن القائمة الطويلة للنسخة العربية من البوكر عام 2014.
في رواية (366) التي تمثل «سنة كبيسة» لأيام حب من نوع جديد يخترعه أمير تاج السر توليدا من قصة حقيقية كانت «في الأصل» تختصرها مجموعة من الرسائل المكتوبة بالحبر الأخضر، بتوقيع»المرحوم» عثر عليها الروائي تاج السر وهو في المرحلة الثانوية من الدراسة، برفقة مجموعة من الطلبة، تحت سور المدرسة في بورتسودان، وقد خطها عاشق مجهول إلى «أسماء»، لكن أمير تاج السر يصنع من الحدث رواية موازية تأخذ من الواقع شيئا ومن الخيال أشياء، بحيث تتكرر معادلته الروائية الثرية والمدهشة، بشكل يسمح لنا بالقول أنها هذه المعادلة التي يكونها تاج السر هي قريبة الشبه بالواقعية السحرية، لكني أؤكد أن هناك واقعية سحرية عرفناها من أمريكا اللاتينية وهناك واقعية أمير تاج السر السحرية الخالصة.
هذا الروائي، من عائلة حكاءة، وعند سؤاله عن دلالة أن يكون الكاتب من عائلة حكاءة أجاب: «أزعم أن الحكي وراثة، يرثه البعض من الأجيال، وطبعا؛ هو دائما مقترن بسعة الخيال، وهذا ما يستفيده الكاتب حين يرث الحكي، أي يرثه كاملا بكل ما فيه من تخيل ومتعة»
يعتبر أمير تاج السر من الروائيين الذين استطاعوا تكوين أسلوب خاص بمهارة وحرفية، وفي رواية 366، يتجلى تاج السر في دور الساحر الأسمر الذي يبتكر ويكوِّن ويلعب بقوالب فنية محكمة البناء، تستلهم خيال الشاعر لدى الكاتب، فيستدعي المخيلة الرحبة الثرية، الباذخة التي تختزن أدق التفاصيل، مما يأخذ القارئ في مسارات مدهشة وجميلة، مع إصرار دائم على الاحتفاظ بالسلاسة والعذوبة الفنية، دون مغادرة منطقة السرد الروائي المدهش والعذب، وهو بهذه المعادلة الخاصة لا يتخلى،عما اعتاد، وعود القارئ، من مهارة الطرح، إلى فن الدهشة، ثم الإيهام الممتع للقارئ، ثم إيقاظه العذب من الخداع الجميل أو التوهم اللذيذ.
الشخصيات في رواية «366» تتمرد على كاتبها فيخضع لها، وتملي عليه ضمائرها وطباعها وأحلامها ومخاوفها، ويتضح ذلك في شخصية «المرحوم» التي تنساق في اتجاه الفناء الكامل في المحبوب لدرجة الموت النفسي ثم البيولوجي، هذا «المرحوم» الذي جعله تاج السر كيميائيا، وعندما تحققنا عبر سؤاله ما إذا كان المرحوم الأصلي كيميائيا فعلا؛ فأجاب الروائي انه من كوّن الوظيفة والمهارة وصياغة التفاصيل «بشياطينها وملائكتها» بما تداعت عنه الشخصية لتكون مرحوما موازيا للمرحوم الحقيقي، لكن ضمن شروط الفن الروائي، وبذلك تفوقت شخصيات تاج السر من خلال براعته في كيمياء التفاصيل والمشاعر والعواطف والخيال الخصب الذي كان موازيا في مناطق، معينا أو متفوقا على خيال باتريك زوسكيند في «العطر- قصة قاتل» وهو يتحدث عن «جان باتيست غرنوي» في الجبل، مما مكن الشخصية، وبالتالي الرواية «366»من أن تكون عالمية بامتياز دون أن تكرر أحدا
الشخصيات الثانوية في رواية (366) تتساوى بجدارة في أهميتها للعمل مع الشخصية الرئيسة؛ ولذلك غابت الشخصيات الكرتونية، نتيجة نضوج الشخصيات الثانوية واستمرار نموها، وقد بدا واضحا أنها تساهم في تحريك الحدث وتخلق تشابك العلاقات داخل فضاء واسع ومترامي من الحيز المكاني الذي يحتوي الأحداث، مما ساعد في خلق ردود أفعال وصياغة أحداث وتداعيات والكشف عن توترات، تولت الرواية التنوير وهي تشد اليها القارئ المصاب بالدهشة
العلاقات بين الشخصيات متناغمة رغم ظاهرها المتوتر أحيانا، وكذلك علاقتها مع كاتبها رغم الصراع الاجتماعي مع البؤس والضيق والحرمان ، والأحلام المنهكة، ورغم انهماك كل شخصية في عالمها الذي لا تستطيع منه خلاصا ولا يحاول راويها التدخل في مصيرها أو توجيهها
ويستعين تاج السر بمفردات الحياة اليومية، وهمومها، واشكالياتها؛ من اجل إكمال الصورة الروائية؛ وجعل المشاهد مرنة، تصور التفاعل الحقيقي بين الشخصيات وقضاياها، من خلال الحياة العامة والخاصة والاجتماعية والصراعات النفسية، والبحث عن الخلاص في مكان ما في الرواية
إجمالا؛ فان القارئ يلاحظ التكثيف العالي للشخصيات التي تنتمي إلى القاع دون اعتزالها للطبقات العليا، وكذلك يجد أن الشخصيات الآتية من القاع رغم انسياق عدد منها إلى مصيره؛ فان بعضها قد صعد إلى طبقات أخرى، وآخر قد انزلق إلى قاع بديل مواز، كما ويبدو أن انتماء هذه الشخصيات إلى بيئة افريقية- سودانية خاصة جدا، وتحرر أمير تاج السر من الكتابة الأيديولوجية، جعله يقدم مزيجا من السياسي والاجتماعي والعاطفي في الرواية «الواقعية السحرية الرومانسية»، ويرسم الشخصيات بوضوح آت من خبرة واطلاع ومهارة، ثم يترك الكاتب شخصياته تنمو وتتفاعل إلى نهاية العمل عبر منحنى الصراع السردي-الدرامي، من غير أن تترك القارئ في أي حيرة أو إحساس بالضياع.
ثم إن الكاتب يميّز عمله الإجمالي وأسماء شخصياته وأماكنه بأسماء منتقاة بعناية من البيئة الحقيقية، وذلك سواء في رواية (366) أو غيرها، وربما يعود ذلك إلى أن الراوي خبير، وبارع في اصطياد التميز، وانه يريد أن يقدّم لهذه الشخصيات عبر أسمائها المتميزة منبرا تتحدث عبره؛ لأنها لا تجد إلا الرواية عند «أمير تاج السر» منبرا حرا تتداعى أوجاعها من خلاله، فتبوح بواقعها الكابوسي.
البعد الزماني، والبعد المكاني متميزان، لأن تاج السر ابن بيئته، التي نبش تحت سور مدرستها تلميذا، وتجول في إحيائها شابا، ثم خرج منها طبيبا بارعا، ولا زال ينتمي إليها، ويعبّر عن ذلك الانتماء بأسلوبه الموضوعي، بالرغم من صدقة وإخلاصه في تناولها، ذلك لأنه محايد وواضح، بل ناصر لها في كونها مظلومة، وظالمة لنفسها في سكوتها على واقعها.
الزمان «366 يوم» والذي يشكل أيام سنة كبيسة كاملة، عبرت في الرواية بين دفتيها دورة عمر معلم المدرسة الكيميائي الطامح بصياغة مقرر كيمياء جديد، كما فعل من قبل رفيقه الكيميائي السيكوباثي «شمس العلا- عاصم»، وهذه وان كانت تبدو عادية إلا أنها تحمل رمزا دلاليا واضحا لحياة الإنسان ودورة وجوده التي ترمز السنة إليها، وربما كانت كبيسة لأنها لا تكتمل إلا كل أربع سنوات، وقلما ما اكتملت للمسحوقين.
البؤس، والقاع، والحب السامي، ثيمات يكتبها أمير تاج السر عبر لغة سلسة ممتعة، وسرد متتابع متدفق، في واقعيته السحرية الخاصة، مما يمنحه تميزا خاصا على مستوى السرد والقضية، وتفردا بين الأدباء عبر إعادة صياغة، وخلق تفاصيل المعاناة، بخصوصية القلم السوداني الأميري، والتجربة الإبداعية التراكمية في السودان ضمن رحابة التنوع الثقافي، والألم الإنساني السوداني.
كاتب فلسطيني
إياد شماسنة
 -

2 تعليقات

  1. لروايات أمير تاج السر بنيتهاالحكائية المتميزه .. وتقنياتها السردية الخاصة .. فهي تمارس استبطانا شاعريا غريبا لمكونات الواقع الاجتماعي _واحيانا السياسي _ للانسان السوداني .. ذلك كله عبرلغة سرد مجنحة .. تمزج في بنيتها بين الواقع والشعر .. بين اليومي والحلمي _مشكلة فانتازيا سردية هائلة .. متعددة المستويات .. والشخوص .. والعلاقات .. والاشارات .. فيما يمكن تسميته .. ب)أسطرة الواقع( _يراجع بهذاالخصوص)مرايا ساحليه(_متلا .. هذا فضلا عن تعدد تقنيات السرد في نسيج الحكاية الواحدة .. كالتداعي .. والاستيهام .. والحوارالدارجي .. والمجازات اللغوية .. والاستعارة التي تمتح من معين خيال فينومنولوجي لافت .. أميرتاج السر .. حكاء في ثياب شاعر .. لايهمل لوازم السرد وضروراته .. ولكنه _ بالمقابل _لايخضع لبنية الحكايه التقليدية .. وانظمتها الاسلوبية المألوفه.. بل يمارس تجنيحا مقصودا لهذه البنيه _ لهذا تقع سردياته في منطقة وسطي بين الواقع والحلم .. بين الحقيقة والمجاز .. وتستعصي علي البيداعوجيا الاجناسية التصنيفية السائده في نظامنا النقدي العربي.
  2. جميل ما يفعل ابناء السودان انه الابداع بحق شكرا على كل ذلك

أترك تعليقاً

القدس العربي قد تستخدم بعض التعليقات في نسختها الورقية - لذا الرجاء كتابة الاسم الأول واسم العائلة واسم البلد ---- لن ينشرعنوان بريدك الالكتروني
 characters left

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

موسم النبي روبين في جنوب فلسطين بلدة ومقام النبي روبين عام 1935

حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان

الأولى   فنون حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان  2018-08-01 10:00:00 المصدر: موقع مؤسسة عبد المحسن القطان إياد شماسنة كاتب وشاعر من فلسطين  "أبعاد ذاتية" لمنال ديب في دار إسعاف النشاشيبي بالقدس حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان يستمر المعرض من 27 حزيران وحتى نهاية أيلول، في المبنى الرمادي الغامق على شكل مكعب، أعلى تلة في ضاحية الطيرة التي تتوسع نحو الريف، وتستمر رسالة المؤسسة في التنوير والمساهمة في تكوين وترسيخ ثقافة نقدية فلسطينية، ذاتية للبنية والمشروع السياسي، كما قال عبر الرحمن شبانة أحد القيمين على المعرض. عندما يرتبك المشروع السياسي، أو يغيب الضوء قليلاً عن الأفق الوطني، في ظل متغيرات قاهرة، تتراجع السلطة الحاكمة، تتخلى، أو يتم إجبارها على التخلي عن دورها الخدماتي، ويقتصر على التشريع والدفاع إن وجد، لصالح القطاع الخاص، أو بمشاركة ولو محدودة للقطاع الأهلي. في تلك التحولات؛ تتقدم الثقافة، ناقدة، تنويرية، مثيرة للأسئلة، باحثة عن ال...

رحلة ايفا شتال الى فلسطين عبر مخيم تل الزعتر

" حدود المنفى " (رحلة إيڤا شتّال إلى فلسطين عبر مخيّم تلّ الزعتر) جوتنبرج 14.01.19 أعزائي؛ سميرة وحسن عبادي لقد مر شهرٌ وأكثر منذ عودتنا من فلسطين، وما زلنا لم نستقر بعد. لا يتعلق الأمر بأننا لا نمتلك عائلة كبيرة (إنها لدينا)، والكثير من الأصدقاء (هم لدينا)، أو أن والدتي تبلغ من العمر (ما يقرب من 96 عامًا وتتمتع بصحة جيدة جدًا، ولكنها الآن سقطت وارتطم رأسها)، أو أنه لا توجد فرصة للحديث عن فلسطين؛ (نحن نفعل ذلك – فقد كتب نيستور(زوج إيڤا ح.ع.) نصًا ووضعه على الفيس بوك وكان هناك الكثير من التعليقات والمشاركات. لقد قدّمْتُ عرض باور بوينت متقدم وأنجزت الان حتى الآن 4 "لقاءات"، على سبيل المثال: اجتماعات مع الكثير من الأشخاص المهتمين) . لا، إنه شعور بأن الوقت يمر بسرعة كبيرة، ولا يمكننا العمل بشكل جيد بما يكفي لوقف آلة القتل الإسرائيلية من أجل استمرار الاحتلال . نحن نشعر بالحزن! إنه نوع من الاكتئاب، العجز. هذه هي الحقيقة، على الرغم من أننا رأيناك قوياً للغاية، وتستمر في القول: "هذه هي حياتنا" "هذا هو الاحتلال" أو "هذه هي إسرائيل "...