التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"الليل الأزرق:

 


 استكشاف العزلة والصراع الداخلي في رواية بهاء رحال

اياد شماسنة/شاعر وروائي "

رواية الليل الأزرق للكاتب بهاء رحال، الصادرة عن مكتبة كل شيء الحيفاوية (2023) عمل أدبي يجمع بين العمق الفلسفي والتأمل الاجتماعي، حيث تسعى إلى استكشاف الجوانب الإنسانية للحياة الفلسطينية في ظل التحديات الشخصية والاجتماعية. تعيش الشخصيات الرئيسية حياتها الروائية في حالة صراع بين الماضي والحاضر، وتنشغل بالتفكير في مفاهيم العزلة، الزمن، والمقاومة. تجسد الشخصيات في هذه الرواية معاناة الإنسان الفلسطيني في ظل الاحتلال، وتظهر حالة الفقدان، الحنين، والبحث عن الهوية في عالم مليء بالتناقضات.

تعتمد رواية الصديق بهاء رحال على سرد تأملي عميق، حيث يتم تقديم الشخصيات من خلال مزيج من المونولوجات الداخلية والحوار الفلسفي. يوسف وسعيد؛ الشخصيتان المحوريتان في الرواية، ولكل منهما تجربته الخاصة التي تعكس الصراعات الإنسانية. يوسف، الذي يعيش حالة من العزلة الطوعية بعد وفاة والديه، يمثل تجسيدًا للتأمل الفلسفي في الحياة والوجود. في المقابل، فإن سعيد شخصية ثورية متقاعدة تجد نفسها غارقة في الفراغ بعد انتهاء دوره كمقاتل في الثورة. هذا التناقض بين الشخصيتين يعزز من تأثير الرواية ويبرز الصراع الداخلي لكل منهما.

تتميز الرواية، من الناحية اللغوية، باستخدام أسلوب شاعري يمزج بين الرمزية والتأمل. اللون الأزرق الذي يظهر في العنوان يُستخدم كرمز للعزلة والتأمل، ما يضفي على النص بُعدًا رمزيًا يعكس الحالة النفسية للشخصيات. كما أن الكاتب يستند إلى عناصر صوفية وفلسفية من خلال اقتباساته وأفكاره، مما يعمق التأمل في معاني الوجود والروحانية. هذا المزج بين الرمزية والواقعية يجعل اللغة وسيلة لنقل أفكار معقدة، ويضفي على الرواية نسيجًا جماليًا قويًا.

من حيث الموضوعات الرئيسية، تقدم الرواية مقاربة عميقة لمفهوم العزلة. يعزل يوسف نفسه عن المجتمع، ليس فقط كوسيلة للهرب من صعوبات الحياة، بل أيضًا كطريقة للتصالح مع الذات وإعادة اكتشاف معنى الحياة. العزلة بالنسبة له ليست حالة قسرية بل خيار واعٍ، تعكس رغبته في الهروب من الصخب والضجيج المحيط به. في المقابل، يعيش سعيد عزلة قسرية بعد تقاعده من العمل النضالي، وهي عزلة تفاقم إحساسه بالفراغ وفقدان الغاية. هذا التباين بين العزلة الطوعية والقسرية يعكس اختلاف الشخصيتين وتباين رؤيتهما للعالم.

سعيد، الذي كان في يوم من الأيام جنرالًا في قوات الأمن الوطني، يعاني تحولا عميق في حياته بعد التقاعد. تجربته مع الثورة والنضال تتركه في حالة من الحنين إلى ماضٍ مضى. تتناول الرواية هذا الحنين بشكل مؤلم، حيث يشعر سعيد أنه تم التخلي عنه بعد أن قدم سنوات عمره للنضال. هذا الإحباط العميق يتجسد في العديد من المشاهد، مثل تقاعده المفاجئ وفقدان الهيبة والانضباط الذي كان يتمتع به خلال حياته المهنية. أحد أبرز الأحداث التي تعبر عن هذه الحالة هو مرضه الذي أدى الى تناوله للحبة الزرقاء، ما يجعله يتأمل في هشاشته الجسدية والنفسية.

تكشف العلاقة بين الشخصيات الرئيسية عن عمق العلاقات الإنسانية في الرواية. العلاقة بين يوسف وسعيد هي علاقة صداقة تقوم على الحوار والمشاركة، ولكنها في الوقت ذاته تكشف عن اختلافات جوهرية في رؤية كل منهما للحياة. يجد يوسف في العزلة معنى للوجود، بينما يعاني سعيد فقدان الإحساس بالهدف. هذا التناقض بين الشخصيتين يضيف بعدًا فلسفيًا للرواية، حيث يعكس اختلاف الطرق التي يتعامل بها الإنسان مع الواقع.

لا تقتصر الرواية على شخصيتي يوسف وسعيد فقط، بل تضم أيضًا شخصيات ثانوية تسهم في تعميق السرد. الجارة العجوز، التي تعيش على أمل الإفراج عن ابنها الأسير منذ عام 1993، تمثل رمزًا للأمل والإيمان. هي شخصية تعيش على الدعاء والانتظار، وتمثل قوة الصبر في مواجهة قسوة الزمن والظروف السياسية. هذه الشخصية تُضفي بعدًا روحانيًا على الرواية، حيث تذكر القراء بأهمية الإيمان والأمل حتى في أصعب الظروف.

نور، ابنة سعيد الكبرى، تلعب دورًا آخر في بناء السرد وتطويره. تمثل نور جيلًا جديدًا من الفلسطينيين الذين يعيشون حياة بعيدة عن الوطن، في مدن مثل دبي، ساعين لتحقيق طموحاتهم بعيدًا عن الصراع اليومي في فلسطين. هذا البُعد الجيلي يعكس التحولات الاجتماعية التي يعيشها الفلسطينيون بين جيل الثورة وجيل الاغتراب، ويبرز التباعد بين الآباء والأبناء في ظل هذه التحولات.

تُعتبر الأحداث المحورية في الرواية بمثابة تجسيد لعمق الصراعات الداخلية للشخصيات. تقاعد سعيد، على سبيل المثال، يشكل أزمة هوياتية عميقة، حيث يجد نفسه فجأة بلا دور أو هدف بعد حياة مليئة بالنضال. هذا التحول يعمق إحساسه بالخيبة والحنين إلى أيامه كجنرال. إلى جانب ذلك، مشهد مرض سعيد وإجرائه عملية القسطرة بعد تناوله الحبة الزرقاء يعكس هشاشته الجسدية والنفسية، ويكشف عن تناقضات الشخصية التي تعيش بين مظاهر القوة والهشاشة.

التفاعل بين الشخصيات والمجتمع المحيط بها يظهر بشكل واضح في المشاهد التي تجمع بين يوسف وسعيد والجارة العجوز. المشهد الذي يرافق فيه يوسف جارته العجوز إلى الدير لتفي بنذر قديم يعكس تناقضات الحياة الروحية والاجتماعية. العجوز التي تعيش على الأمل تجد في الدير ملاذًا روحانيًا، بينما يعكس هذا المشهد أيضًا صعوبة تحقيق الأحلام في ظل القيود المفروضة، سواء كانت دينية أو اجتماعية.

العلاقة مع الزمن تشكل محورًا أساسيًا في الرواية. الشخصيات تعيش بين الماضي والحاضر، وتكافح للتصالح مع ما مضى. سعيد على وجه الخصوص يجد نفسه غارقًا في الحنين إلى ماضيه الثوري، حيث يشعر بأن الزمن قد تجاوزه. الرواية تقدم الزمن كعامل ضاغط على الشخصيات، حيث يجعلهم يتأملون في حياتهم وما فقدوه على مر السنين. هذا الشعور بالعجز أمام الزمن هو ما يجعل الرواية تحمل طابعًا فلسفيًا قويًا.

من حيث التحليل النفسي للشخصيات، تُبرز الرواية فهمًا عميقًا للعواطف الإنسانية المعقدة. يوسف يمثل شخصية تبحث عن السلام الداخلي من خلال العزلة، في حين يعيش سعيد حالة من التوتر المستمر بين ما كان عليه وما أصبح. هذا التحليل النفسي العميق يمنح القارئ فهمًا أوسع لتجربة الشخصيات وصراعاتها الداخلية.

أحد الانتقادات التي قد تُوجه للرواية هو الإطالة في بعض الحوارات والمونولوجات الداخلية، والتي قد تؤدي إلى بطء السرد في بعض الأجزاء. ومع ذلك، فإن هذه الإطالة قد تكون مبررة في سياق التحليل العميق للشخصيات والصراعات التي تعيشها. الرواية تعتمد على التأمل والبحث في معنى الحياة، مما يجعل هذا الأسلوب مناسبًا لطبيعة السرد.

في الخلاصة، تقدم رواية الليل الأزرق نصًا غنيًا بالمعاني الفلسفية والإنسانية. بهاء رحال ينجح في تصوير شخصيات معقدة تعيش بين الحاضر والماضي، وتبحث عن معنى للوجود في ظل تحديات الحياة الفلسطينية. الرواية تُبرز الصراع بين العزلة والاندماج، بين النضال واليأس، وبين الأمل والخيبة. وعلى الرغم من بعض الإطالات في السرد، تظل الرواية عملًا مؤثرًا يعكس عمق التجربة الإنسانية وتجسد البحث المستمر عن الهوية والهدف في عالم مضطرب.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

موسم النبي روبين في جنوب فلسطين بلدة ومقام النبي روبين عام 1935

حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان

الأولى   فنون حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان  2018-08-01 10:00:00 المصدر: موقع مؤسسة عبد المحسن القطان إياد شماسنة كاتب وشاعر من فلسطين  "أبعاد ذاتية" لمنال ديب في دار إسعاف النشاشيبي بالقدس حين تتعاقد الأمم من الباطن: أسئلة التنوير والنقد في معرض مؤسسة عبد المحسن القطان يستمر المعرض من 27 حزيران وحتى نهاية أيلول، في المبنى الرمادي الغامق على شكل مكعب، أعلى تلة في ضاحية الطيرة التي تتوسع نحو الريف، وتستمر رسالة المؤسسة في التنوير والمساهمة في تكوين وترسيخ ثقافة نقدية فلسطينية، ذاتية للبنية والمشروع السياسي، كما قال عبر الرحمن شبانة أحد القيمين على المعرض. عندما يرتبك المشروع السياسي، أو يغيب الضوء قليلاً عن الأفق الوطني، في ظل متغيرات قاهرة، تتراجع السلطة الحاكمة، تتخلى، أو يتم إجبارها على التخلي عن دورها الخدماتي، ويقتصر على التشريع والدفاع إن وجد، لصالح القطاع الخاص، أو بمشاركة ولو محدودة للقطاع الأهلي. في تلك التحولات؛ تتقدم الثقافة، ناقدة، تنويرية، مثيرة للأسئلة، باحثة عن ال...

رحلة ايفا شتال الى فلسطين عبر مخيم تل الزعتر

" حدود المنفى " (رحلة إيڤا شتّال إلى فلسطين عبر مخيّم تلّ الزعتر) جوتنبرج 14.01.19 أعزائي؛ سميرة وحسن عبادي لقد مر شهرٌ وأكثر منذ عودتنا من فلسطين، وما زلنا لم نستقر بعد. لا يتعلق الأمر بأننا لا نمتلك عائلة كبيرة (إنها لدينا)، والكثير من الأصدقاء (هم لدينا)، أو أن والدتي تبلغ من العمر (ما يقرب من 96 عامًا وتتمتع بصحة جيدة جدًا، ولكنها الآن سقطت وارتطم رأسها)، أو أنه لا توجد فرصة للحديث عن فلسطين؛ (نحن نفعل ذلك – فقد كتب نيستور(زوج إيڤا ح.ع.) نصًا ووضعه على الفيس بوك وكان هناك الكثير من التعليقات والمشاركات. لقد قدّمْتُ عرض باور بوينت متقدم وأنجزت الان حتى الآن 4 "لقاءات"، على سبيل المثال: اجتماعات مع الكثير من الأشخاص المهتمين) . لا، إنه شعور بأن الوقت يمر بسرعة كبيرة، ولا يمكننا العمل بشكل جيد بما يكفي لوقف آلة القتل الإسرائيلية من أجل استمرار الاحتلال . نحن نشعر بالحزن! إنه نوع من الاكتئاب، العجز. هذه هي الحقيقة، على الرغم من أننا رأيناك قوياً للغاية، وتستمر في القول: "هذه هي حياتنا" "هذا هو الاحتلال" أو "هذه هي إسرائيل "...