اياد شماسنة/ شاعر وروائي
"حمامة القسطل" ديوان الشاعر الفلسطيني محمد شريم، الصدار عام
2024 عن "مكتبة كل شيء" في حيفا، نافذة على الذاكرة، يطل منها الشاعر محمد شريم،
مؤسس منبر أدباء بلاد الشام، يشرف على زمنٍ مضى ولم يمضِ. إنه حوار بين الحنين
والجغرافيا، بين الأمل والغربة، بين القصيدة والأرض التي تحمل حروفها. هنا، يبحث
الشاعر عن وطن يسكن الروح، وطن لم يفارق القلب يومًا رغم الغياب.
لا يكتب الشاعر مقدمةً لديوانه كمن يضع
العنوان على أبواب الحكاية. بل يفتح أبواب الروح على مصراعيها، يُهدينا قصائده
كخارطة، تُقرأ بالبصيرة، حيث يتشابك الحرف مع الذكرى، والقصيدة مع الوجدان كما
يلتف الشال حول أكتاف الكنعانيات . في كل سطر يهمس: "هذه ليست كلماتي وحدي،
بل كلمات الذين مرّوا من هنا، الذين حملتهم الريح إلى المنفى والشتات دون أن
تسلبهم حق الحنين."
ديوان حمامة القسطل، العمل السادس في
مشروع الشاعر محمد شريم الشعري، يبدأ الرحلة مع "حمامة القسطل"، الكائن الذي
تحلق عاليًا بين كتب المدارس الفلسطينية، تناغي جدران الصفوف بصوتها الشجي، فتختلط
أصوات الأطفال بالحنين إلى وطن الاباء والاجداد. هنا، الحمامة تُغني للعودة، للقرية
التي صارت بعيدًا ولم تغب. هديلها هو صوت المنفى ا الذي لا يعرف الصمت.
ثم تأتي قصيدة "ديرابان"، أكثر من قرية في
الذاكرة، بل نبض في القلب. في كل شجرة، في كل حجر، في كل غيمة عبرت سماءها. يستعيد
شريم قريته كمن يلتقط ظلًا ضاع في الزحام. يصوغ التشبيهات والصور كأنها خرائط
للأمل. يصبح المكان حياً، يُعيد تشكيل نفسه في مخيلة القارئ، كأن ديرابان لم تُهدم
يومًا، وكأنها ما تزال تنتظر أبناءها ليعودوا من الغياب الطويل.
وفي القدس وبيت لحم والخليل قصائد، يأخذنا الشاعر في رحلة. ويخبرنا أن المدن ليست
مجرد حجارة ولا أسماء. المدن أرواح تسكن القصيدة وتنبض بها. القدس عاصمة الروح،
بيت لحم مهد الحكاية، والخليل حزنٌ وجمالٌ ينضح من كل زاوية. في هذه المدن، يستعيد
شريم أمجادًا وحكايات، ينسجها بحروفٍ تعبر الحدود، حيث كل قصيدة وطنٌ صغيرٌ يكبر
في القلب.
أما في الشكل الشعري، فشريم مخلصٌ لبحور
الشعر العربي، يحترم الوزن والقافية، لكنه يترك لنفسه مساحات للعب. يجرب في الشعر
الحر كما يجرب الطير في السماء. يكتب القصيدة وكأنها حوار بين الماضي والمستقبل،
بين القديم والجديد، بين الجذور والأجنحة.
الحنين في الديوان ليس حنينًا شاعر فرد،
بل حنين أمة. في قصائده، يعود حلم الوحدة العربية، تلك الوحدة التي كانت تملأ
الأفئدة وتحرك الأجيال. شريم لا يكتب فقط عن الأوطان المفقودة، بل يكتب عن الخيبة
التي أصابت الأحلام الكبيرة، لكنه لا يفقد الأمل. في كل قصيدة، نسمع صوته وهو
يُردد: "ما زال الحلم ممكنًا، ما زالت الوحدة قيد الأمل."
يكتب عن الأسرى والشهداء، يستلهم النبي
يوسف في ظلام السجن. يستلهم من الأنبياء رموزًا للمقاومة والصبر، لتصبح قصائده
رسالة لكل من يبحث عن خلاص في ظلام هذا العالم. شريم لا يكتب فقط عن الألم، بل
يكتب عن الأمل الذي ينبع من هذا الألم، كما ينبع النور من أعمق ظلمات الليل.
في الطبيعة، يجد الشاعر نفسه أيضًا. يكتب
عن المطر، عن النافورة، عن يوم عاصف. يتحدث إلى الأشجار كما يتحدث إلى البشر، يكتب
عن المطر وكأنه رسالة تأتي من السماء. هذه الطبيعة تحمل في طياتها فلسفة وجودية،
تنبض في قلب القصيدة، وتمنحها أبعادًا أخرى.
يكتب شريم عن غونتر غراس الشاعرًا الألماني،
فيمد يدا إلى الأدب العالمي، في حوار صامت مع الأدباء الذين كتبوا عن الإنسانية في
مختلف أنحاء العالم. شريم يقول لنا أن الشعر لا يعرف الحدود، وأنه يتسع لكل من
يحمل الكلمة سلاحًا ضد الظلم.
وفي إحدى قصائده، يلعب شريم مع الأصمعي في
قصيدته "صوت صفير البلبل". يعيد صياغتها بروحٍ جديدة، يبتسم وهو يعيد
تشكيل الكلمات، كأنه يقول: "الشعر ليس مكانًا للجِدية فقط، بل هو مكانٌ للحياة
بكل تجلياتها." هنا يظهر الشاعر في لعبه مع التراث، يحييه بروح مرحة، ويمنحه
بعدًا جديدًا.
وفي قصائده التعليمية، نجد شاعرًا يحمل
رسائل تربوية ووطنية، يكتب للأطفال كما يكتب للكبار. قصائده تُعلم الحب، وتُعلم
الانتماء، وتُعلم كيف يكون الوطن في القلب قبل أن يكون في الأرض.
"حمامة
القسطل" أكثر من ديوان، انه رحلة في الزمان والمكان، في الذاكرة والحلم. هو
صوت شاعر يحاول أن يُعيد رسم الحدود بين الماضي والحاضر، بين الحلم والواقع. وفي
كل قصيدة، نجد وطنًا صغيرًا ينتظر أن يكبر في قلب كل من يقرأ.
تعليقات
إرسال تعليق