19 أبريل، 2017
مقدمة
تُشكِّل السّجون وتقنيات الحجز والاعتقال عَصب الماكينة القمعية الاستعمارية في فلسطين، “ودُرة التاج” في منظومة القانون الاستعماري بوصفه أداةً للضبط والقمع. وفي ظلّ الشكل الليبرالي “الديموقراطي” الذي تتلبس به الأنظمة الاستعمارية اليوم، والذي يرتكز على القانون كمنظومة أساسيّة للقمع والحرب المفتوحة على المجتمعات، حلّت السجون محلّ القتل كأداة أولى للقمع المنظّم دون أن تلغيه، أو لنقل أنّ القانون هو الذي يجعل القتل ممكناً داخل القانون وخارجه.
أي أن السجن لم يكن في الأنظمة الاستعمارية السابقة هو الحلّ لأي حركة “تمرد”، بل كان القتل هو الخيار الأول. لكن مع تنامي ما يسمى بـ”الدولة الحديثة” وعقلنة إدارتها، والاهتمام المتزايد بصورة الدولة لتناسب معايير “الديموقراطية الليبرالية”، أصبح السجن هو البديل عن القتل، فبدلاً من قتل المتمرد أو الثائر، يقوم النظام بالحكم عليه بالسجن مدى الحياة، وهكذا فالنظام يقتل من يخالفه دون أن يقتله أو يحمل أية تبعات أو أي حرج.
وعلى الرغم من أن منظومة القانون الاستعماري تشير إلى السجن بوصفه “عقوبةً”، فمن المهم الانتباه إلى أن الوظيفة الأساسية للسجون وآليات الحجز المُتعددة هي ضبط المجتمعات وإدارتها بهدف الحفاظ على استقراراها (والاستقرار يعني الخضوع والخنوع حصراََ في المُعجَم الاستعماري) لا عقابها. ويمكن ملاحظة ذلك من المصطلحات المستخدمة لتوصيف آليات الاحتجاز والسجن، وهي مصطلحات طبيّٰة وبيولوجية، مثل “استئصال” و”حجز العناصر المرضية”، في استعارة من حالة الحجر الصحيّ في المستشفيات “حفاظا على صحة” الجسد المُجتمعي.
وكذلك يتم توصيف عمليات القمع والضبط عن طريق الاعتقال بكونها تدخلاً يهدف إلى “تنمية المجتمع” ضمن شبكة من التدخلات المجتمعية الاقتصادية والثقافية. يمكننا القول هنا: بأن ما يتم سجنه فعلاََ هو المجتمع من خلال سجن قواه الحيّة الرافضة للخضوع في سياق عمليات الهندسة المجتمعية الشاملة “الناعمة” والخشنة. (كلما مَررتُ بشعار وكالة التنمية الامريكية USAID القائل: “نستثمر في البُنية التحتية”، فهمت أنّ المقصود “بالبنية التحتيّة” كلّ المشاريع التي تجعل الخضوع- البنية الفوقية- للمشروع الصهيوني مُمكنا، مُريحا وسعيداََ).
عدا عن ذلك، فإنّ الاستعمار الصهيوني الليبرالي، عمل على خلق أنظمة حجز واعتقال محليّة متواطئة تشكل استمرارية لعمل نظام السجون الصهيوني، يتم فيها القيام “بالعمل القذر”: التعذيب، والتصفية أثناء الإعتقال، والملاحقة المستمرة والاستدعاءات اليومية، متحررة من ضوابط النظام القضائي الصهيوني، حيث التعقيدات القانونية الضرورية للحفاظ على أخلاقية المستعمر المدعاة، كما كان حال معتقل الخيام لدى جيش لحد، وسجون السلطة اليوم.
وفي فلسطين، لا حدّ فاصل واضح بين داخل السجن وخارجه، وما نسميه سجناََ هو حالة ضرورية لكي يشعر من هم “خارجه” بالحريّة الممنوحة لهم، حريّة التقل والسفر والعبور، فلا حريّة تحت نير الاستعمار وإنما امتيازات وعطايا من النظام الاستعماري، يصاحبها قلق دائم من فقدانها، ومقايضة الحريّة بالخضوع “الحُر”.
الهروب من السجن
يتربّع الهارب من السجن في عقل كل مصمم للسجون، حيث يُصمَم المكان بأدق تفاصيله لينطق حاله بأن الهرب مستحيل وأنه لا أمل. وعادة ما يتم استخدام عبارة أن الهرب مستحيل من هذا السجن عند تدشين كل سجن جديد، وعادة ما تُثبت الوقائع العكس. ومن هنا لا تقتصر تبعات ونتائج نجاح عملية الهرب على المستوى الفردي للفرد أو المجموعة الهاربة، وإنما تبعاتها الأهم تكمن في تأكيد عبثيّة مسعى الوصول إلى منظومة السيطرة الكاملة.
لم تكن محاولات الهروب من السجن غريبة أو دخيلة على عالم السجون، ففكرة السجن توازيها بالضرورة فكرة الحرية، وقمة تجلي فكرة الحرية تكون في محاولات اختراق المنظومة الأمنية من داخلها، فالفطرة الإنسانية دائما ما تبحث عن الحرية. وقد تعددت مظاهر هذا البحث المحموم، حيث بدأت بالهروب المعنوي، ولا نبالغ لو قلنا أن أول محاولة هروب ينفذها كل سجين تكون عندما يغلق عينيه ويحاول تذكر أحبابه وأرضه، وتخيل ما يكونان عليه وهو وراء القضبان متناسياً جحيم زنزانته.
ثم كانت محاولات تهريب الأقلام والدفاتر والكتب للقراءة والدراسة، وتحويل الجدارن التي هدفت بالأساس لقتل الأسير إلى مكتبات علمية وحيز ثوري مهم في التعبئة والتنظيم والحشد والتحريك بدلاً من التفريغ والتحطيم. ثم تطورت أشكال الهروب من واقع السجن لتشمل تهريب الرسائل عبر “الكبسولات” والهواتف، والنطف لإنجاب الأطفال، لتتكلل قمة هذا البحث بالهروب من السجن فيزيائيا، أي بالعقل والجسد، معتمدين على قوتين أساسيتين: الإرادة، ومقولة أن كل منظومة أمنية تحمل في داخلها طريقة اختراقها مهما كانت معقدة.
من سيّر الهاربين إلى الحريّة
يجلسُ بهدوءٍ وترقب بين جموع المصلين، يلتقطُ بسمعه وبصره وكلّ حواسه ما يقوله خطيبُ مسجد الاستقلال عزّ الدين القسام عن الجهاد والاستشهاد، حتى أصبح من تلامذته وأتباعه في الكفاح والجهاد. هو الشيخ المجاهد يوسف سعيد جرادات، والمعروف باسم أبو درة. ولد في قرية السيلة الحارثية غرب مدينة جنين عام 1900. اشتغل في بداية حياته في الزراعة، ومن ثم انتقل للعيش في حيفا حيث عمل في السّكة الحديدية.
في حيفا التقى أبو درة بالشيخ القسام، وانضم إلى جماعته. وهناك في أحراج يعبد، قاتل أبو درة جنباً إلى جنب مع معلمه وقائده في المعركة التي استشهد فيها القسام مع عدد من رفاقه في العام 1935، إلا أن أبو درة استطاع يومها الإفلات منهم والخروج من المنطقة بسلامة.
عندما قامت الثورة الفلسطينية الكبرى في العام 1936 التحق أبو درة بصفوفها، وذلك تحت قيادة المناضل الشيخ عطية أحمد عوض، قائد منطقة جنين. وشارك خلال الثورة في العدد من المعارك في منطقتي جنين وحيفا، وشمل ذلك مهاجمة المستعمرات الصهيونية ونصب الكمائن للعصابات الصهيونية والقوات البريطانية. ولقد لمع اسم المناضل الشهيد أبو درة بشكل خاصّ عندما استطاع عام 1937 لفترة زمنية محددة تحرير مناطق من قضاء جنين وقضاء الناصرة وبعض قرى جبل الكرمل.
في تلك الأثناء، كان المناضل يوسف حمدان قائداً لأحد فصائل الثورة في منطقة أم الفحم، ويتألف فصيله من 15 رجلاً، وكان حمدان يعمل تحت إمرة الشيخ عطية أحمد عوض كذلك، مثله مثل أبو درة. بعد أن استشهد الشيخ عطية في معركة اليامون في آذار من العام 1938 بأشهر قليلة، اعتقلت قوات الاستعمار البريطاني المناضل حمدان وزجت به في سجن عتليت انتظاراً لمحاكمته. لكنه لم يستسلم، نجح في الهروب، وانضم إلى مجموعة القائد أبو درة، الذي كان حينها قائداً للثورة في منطقتي حيفا وجنين، وأصبح حمدان نائباً لأبي درة، وشاركا معاً في واحدة من أبرز معارك الهروب من السجن في تاريخ الفلسطينيين.
تحرير أسرى سجن عتليت
في واحدة من أبرز المعارك التي خاضها الفلسطينيون خلال الثورة الفلسطينية الكبرى، وتحديداً في 16/7/1938 هاجم نحو مئتين من رجال القائد أبو درة سجن عتليت البريطاني الواقع إلى الجنوب من مدينة حيفا، وذلك بقيادة سليم الصعبي من قرية عين غزال وإشراف يوسف حمدان.
بدأت المعركة باحتلال منزلٍ يبعدُ عن السجن 300م من جهة الشمال، بينما قام عدد آخر من الثوار بإطلاق النار على مراكز حراس السجن فقتلوهم. وكمن ثوارٌ آخرون للنجدات البريطانية القادمة من حيفا، وآخرون اشتبكوا مع النجدات البريطانية القادمة من الجنوب.
استمرت المعركة ثلاث ساعات، انسحب بعدها الثوار إلى جبل الكرمل بعد أن قتلوا عشرين بريطانياً وضابطاً يهودياً. واستشهد من الثوار محمد قاسم الشواهين من قباطية. وتروي المصادر القليلة التي بين أيدينا عن هذه المعركة، أن يوسف حمدان أشرف على أسر نائب مدير السجن حينها “لزاروفيتس” وزوجته وصهره وأطفاله الثلاثة. فيما بعد أطلق أبو درة سراح الأطفال الثلاثة، وقدّم الثلاثة الآخرين للمحاكمة الثورية، ومن ثم نفذ بحقّهم حكم الإعدام.
وقد قال شاعر الثورة ابراهيم نوح في أبي درة:
“فلسطين لا تفزعي، نجمك في السما درة
حولك فوارس يوم المواقع درة
ما يهابوا الموت ولو ما بقي ذرة
ثوار حايزين النصر صيتهم بالدنيا لمع
يهاجموا الأعداء وسيوفهم تضوي لمع
إسلام ونصارى نجمهم بالسماء لمع
يا رب نصرك ما دام رئيسهم أبو درة”
حولك فوارس يوم المواقع درة
ما يهابوا الموت ولو ما بقي ذرة
ثوار حايزين النصر صيتهم بالدنيا لمع
يهاجموا الأعداء وسيوفهم تضوي لمع
إسلام ونصارى نجمهم بالسماء لمع
يا رب نصرك ما دام رئيسهم أبو درة”
حمزة يونس يهرب 3 مرات
وفي زمنٍ ليس بالبعيد عن زمن عزّ الدين القسام ورفاقه، وليس بالقريب منه، ظهر بطل آخر كانت له تجربة جريئة وناجحة في الهروب من السجن، هو بطل الملاكمة حمزة يونس، ابن قرية عارة في المثلث، جنوب حيفا.
في بداية العام 1964، وقعت مناوشات عنيفة بين الملاكم حمزة يونس وابن عمه مكرم يونس وبين صهاينة في إحدى محطات الوقود الصهيونية في الأراضي المحتلة عام 1948. اتهمه أحد الموظفين حينها أنه تهرّب من دفع الفاتورة وقام بإهانته، ومن ثم تجمّع عددٌ من الصهاينة حول حمزة وصديقه وبدأوا بالصراخ عليهم والإشارة أنهم “عرب”، ومن ثم الاعتداء عليهم، مما حدا بهما للدفاع عن أنفسهما. وكان في حينها من المتكرر أن يصيح الصهاينة “عربي، عربي” حتى يهبّ الشبان الصهاينة ويباشروا بالاعتداء على الفلسطينيين المتواجدين في المكان بالضرب والإهانة.
بعد أن دفع حمزة ومكرم أذى الصهاينة عنهما، لاذا بالفرار، وعرفا فيما بعد، أن أحد الصهاينة الذين تناوشا معهم قد أصيب بارتجاج في المخ وحالته صعبة، فقررا الهروب إلى غزة حتى لا يقعا في الأسر. نجح حمزة ومكرم في تخطي الحدود ودخول قطاع غزة الذي كان تحت السيطرة المصرية في حينه.
توّجه حمزة ومكرم إلى أحد مراكز الشرطة في غزة، وقابلا رجالاً من المخابرت المصرية، الذين طلبوا منهما العودة من حيث أتيا. يقول حمزة في كتابه الذي يوثق فيه سيرته الذاتية “الهروب من سجن الرملة”: “كنت أتصور أنني معروف إلى حد ما لدى المخابرات المصرية والعربية عموماً، وأن معلوماتهم عني كرياضي على الأقل، تكفي لمقابلتنا باهتمام وتفهم سبب هربنا. كان لديهم بعض المعلومات عني وعن مشاكلي مع الشرطة، لكنهم بالرغم من ذلك استقبلونا بفتور، وقرروا أن نعود أدراجنا دون أن يرشدوننا إلى الطريق الآمنة للعودة! تركونا نسلك طريقاً وعراً قد لا يكون خالياً من حقول الألغام . وأدّت عودتنا العشوائية إلى القبض علينا، حيث ركبنا حافلة متجهة من بئر السبع إلى عسقلان، وهذه المنطقة من المناطق المحظورة على العرب”.
اعتقل حمزة ومكرم في الأول من نيسان عام 1964 بعد عودتهما من غزة، وزجّ بهما في سجن عسقلان، ووجهت لهما التهم التالية: :مغادرة البلاد والعودة إليها دون تصريح، والاتصال مع العدوّ، وتزويد العدوّ بمعلومات تضر بأمن الدولة، وخيانة الدولة، وإخفاء معلومات عن رجال الأمن، والإصرار على الاتصال بالعدوّ.
بعد ثلاثة أيام من اعتقال حمزة ومكرم حضر محامٍ موكلٌ من طرف أهلهم بالدفاع عنهم، وطلب منه حمزة أن لا يعود وأن يخبر الأهل بأنه لا ضرورة لحضورهم .لم يفهم مكرم سبب هذا التصرف من قبل ابن عمه وصديقه حمزة، فبادر الأخير بالشرح له: “لأن المحامي لن يفيدنا ما دامت التهم الموجهة إلينا كافية لحبسنا سنوات طويلة”. يقول حمزة في كتابه أنه قال يومها لابن عمه مكرم: “ليس لدي استعداد للبقاء في السجن شهراً واحداً، أضف إلى ذلك احتمال موت العامل المضروب..”. كان حمزة إذن منذ الأسبوع الأول لاعتقاله يفكر بالهروب، ويرفض بشكل صارخ أن يقبل بتقييد حريته وأن يقضي حكماً بالسجن لدى الاحتلال. ولم يكن ذلك التفكير بالهروب عابراً أو مجرد ردّة فعل أوليّة على حقيقة أنه وقع في الأسر، إنما كان يعكس رغبة حقيقية صدّقها حمزة بالتنفيذ الفعلي، مرة، ومرتين، وثلاثة.
الهروب الأول
بدأ حمزة ينشغل بفكرة الهروب، كيف، ولماذا. أما بالنسبة لسؤال “الكيف”، فقد كانت المشكلة الأساسية التي تعترض نجاح الهروب هي أن الباب الحديدي الرئيسي لغرفة الموقوفين يغلق دوماً بإحكام، ولا يمكن فتحه إلا من الخارج.
عدا عن ذلك، بعد هذا الباب هناك حراسٌ متواجدون باستمرار، وهناك أبوابٌ زجاجيةٌ تكشِفُ ما يحصلُ في كلّ السجن، وأخيراً حول السجن شريطٌ شائكٌ له بابٌ واحدٌ فقط، عليه حارسٌ مسلحٌ. فكيف يمكن تخطي كل هذه الحواجز والعقبات أمام طريق الهروب.
أما عن سؤال “لماذا”، فقط شكّل الهروب هاجساً في نفس حمزة، وكان الأمر بالنسبة له موقفاً مبدئياً يجب أن يتخذه وإلا “ينتهي”. يقول في كتابه أنه كلما خلا إلى نفسه سألها: “هل أستطيع أن أنتصر على (إسرائيل) منفرداً؟ لست مسلحاً ولا حتى مدرباً على السلاح، فهل يمكن أن أحرز نصراً على ترسانة السلاح والطائرات ودولة الجيش والشرطة والأمن وكلاب الأثر؟”.
وكلما شعر أن الخوف واليأس قد يتمكنا منه في لحظة ضعف ما، طرد تلك المشاعر بحوارٍ آخر يجريه مع نفسه: “وماذا أفعل إذن؟ هل أتراجع وأستسلم لأقبع في السجن مدة مجهولة؟ ما الفرق بين السجن وبين القبر؟ ..”.
كان حمزة قد أخبر أسيراً عربياً ثالثاً معهم في نفس غرفة التوقيف يدعى حافظ مصالحة، متهمٌ بالتخابر مع المصريين، بنيّة الهروب، فانضم الأخير إليهما في خطتهما. أما باقي المساجين فكانوا فلسطينيين اثنين، وعشرة آخرين من اليهود المتهمين بتهم جنائية. في نفس اليوم الذي قرر فيه الأبطال الثلاثة الهروب، أخبر حمزة جميع من في غرفة التوقيف من مساجين بنيّة الهروب، حتى يلعبوا دوراً في مساعدتهم على تنفيذ الخطة. ادعى حمزة يومها أمام المساجين اليهود أن المساجين العرب لا يعرفون بذلك، وطلب منهم كتم الخبر عن العرب، في محاولة لحماية الأسيرين العربيين من العقاب لاحقاً. كما ادعى حمزة أمام المساجين اليهود بأنهم – حمزة ومكرم وحافظ – يملكون جوازات سفر مزورة وأن هناك من ينتظرهم للهرب إلى أوروبا.
بعد أن أفشى حمزة بالسرّ لجميع من في غرفة التوقيف بدأ التوتر يسيطر عليه، وبدأ يتوجس من أن يفشي أحدهم بالسرّ إلى الحراس، فانشغل بمراقبتهم. وفي محاولة لدفع التوتر بعيداً، يخبرنا في مذكراته أنه وضع يده في يد صديقه مكرم وأقسم أنه لا يمكن له أن يقضي تلك الليلة – وكانت ليلة السبت 17 نيسان 1964 – في السّجن، وأن لا مجال للتراجع، وأنه سيكون في اليوم التالي إما في غزة، أو معتقلاً مُصاباً في المستشفى، أو مستشهداً في العالم الآخر.
لم تكن خطة الهروب التي فكر بها حمزة معقدة، وكانت تعتمد أساساً على عنصري المباغتة والجري السّريع. تنصّ الخطة على استدراج أحد الحراس لفتح الباب الحديدي، بينما يكون الأسرى الثلاثة – حمزة ومكرم وحافط – قد كمنوا خلفه، وبمجرد فتح الباب يهمّ الثلاثة بالفرار بأقصى سرعة إلى خارج السجن.
أما عن معركة الهروب فننقلها كما وصفها حمزة بنفسه في كتابه: “طلبت من سجين يهودي هو أصغر المساجين سناً، يدعى شلومو وهو في الخامسة عشر من العمر أن يدق الباب وأن يقول للحارس أن المساجين العرب أخذوا فراشه، وفي الوقت نفسه رحنا نفتعل مع سائر المساجين ضجيجاً يوهم بالعراك، فعل شلومو ما طلبته منه، وحين نظر الحارس من طاقة الباب، طلب من الفتى السجين أن ينتظر قليلاً حتى يستدعي زملاءه لفتح الباب. كانت تقاليد فتح الباب تقضي بوجود قوة لا تقل عن ثلاثة حراس ليدخل اثنان منهما فقط، ويبقى الثالث الذي يكون مسلحاً خارج الباب للحراسة.
استدعى الحارس زملاءه، وفي هذه اللحظة وحسب الخطة، دخل مكرم وحافظ مصالحة إلى الحمام المقابل للباب الحديدي، بينما كمنت أنا خلف الباب مباشرة وتحت النافذة بحيث لا يستطيع الحارس أن يراني عند فتحها، انتظرت في موقعي وشعرت بأن الوقت يمر في بطء شديد فضربت الباب برجلي، فصاح الحارس! لحظة، نحن قادمون، لا تطرقوا الباب.
سمعت وقع أقدام تتجه نحونا، ثم فتح الباب بالمفتاح، وبعد ذلك فتح القفل. عندما سمعت فتح القفل وقفت ودفعت الباب بقوة، ولأن الباب من حديد فقد توقعت أن يسقط كل من يقف خلفه، لكني فوجئت به ينفتح بسهولة وأسقطني الاندفاع في حضن الشاويش، ولحسن الحظ أنه كان كهلاً قصيراً أصلعاً.
في هذه اللحظة ظهر مكرم من ورائي وضرب الشاويش الأصلع على رأسه فأسقطه على الأرض، بينما قمت بضرب العسكري الذي يحمل السلاح فسقط على الأرض كذلك، ثم ضربت العسكري الثالث.
كان هذا العراك يجري أمام الحراس الجالسين في النظارة، وعندما صاح الحارس: (شرطة،شرطة) انطلقت صفارات الإنذار، فاتجه الحراس نحونا يحملون مسدساتهم فقط، فاشتبكنا معهم بالأيدي، وحسب تعليمات الخطة كنا نتفادى التماسك معهم لنختصر الوقت مدركين أن سلاحنا الوحيد هو عنصر المباغتة واختصار الوقت ومغادرة السجن قبل أن يفيقوا من ذهولهم ويجتمعوا حولنا.
استعملنا في الاشتباك الكراسي وكل الأشياء الموجودة في النظارة، ونظراً لجرح اثنين من الحراس، وارتفاع صراخهما، ونزيف دمائهما، فقد ساد المكان جوّ من الذعر والفوضى، وانتقلت المعركة إلى ساحة السجن حيث جاء بعض الحراس بالبيجامات.
انطلق مكرم إلى الباب الخارجي للسجن وكان أمامه رجل مسلح، وعندما رأى مكرم متجها إليه حاول إطلاق النار من رشاشه، وكنت أجري خلف مكرم فصرخت في الحارس فابتعد، فانطلقت مسرعا خلف مكرم، فتناول حجراً ليقذفني به معتقداً أنني من الحراس ، فصرخت به وقلت: حمزة، حمزة.
عندما صرنا على بعد مائة متر من مبنى السجن بدأ إطلاق النار بشكل كثيف وعشوائي، لكننا واصلنا الجري نحو البيارة التي تقع على بعد مائتي متر من ذلك المبنى الكريه، وكان حافظ قد سبقنا إلى البيارة فناديناه وانطلقنا ثلاثتنا في اتجاه غزة.
قررنا أن نسلك طريقاً وعرة تجعل ملاحقتنا بالسيارة صعبة، بل مستحيلة. كنا نعرف أنهم سيلاحقوننا بالجيش وحرس الحدود والشرطة مع كلاب الأثر، لذلك تعمدنا أن نسير قرب البحر لندخل فيه إذا تمكنوا من اللحاق بنا، ذلك لأن ملاحقتنا بقوة بحرية يتطلب منهم وقتاً طويلاً”. (انتهى إلى هنا الاقتباس من كتاب “الهروب من سجن الرملة”).
وهكذا بعد أربع ساعات من الهروب وصل الأسرى الثلاثة إلى غزة في منتصف الليل. وقد أثارت تجربة الهروب هذه عاصفة في دولة الاحتلال، إذ عقد الكنيست جلسة لبحث الأمر ومساءلة الحكومة عن سياسات الأمن في السجون، وقد أسفر ذلك عن طرد مدير السجن ونائبه وأربعة من الحراس.
وينقل حمزة في كتابه أن جريدة معاريف الصهيونية نشرت في اليوم التالي لهروبهم الخبر تحت عنوان: “هروب ثلاثة مساجين أمنيين من سجن عسقلان، وقام رجال الجيش وحرس الحدود بمطاردتهم مع 152 شرطيا معهم كلاب الأثر”، وأرفقت الجريدة إلى جانب الخبر رسماً كاريكاتيرياً يُبيّن أن الكلاب عادت خائبة وأن الهاربين وصلوا سالمين. أما جريدة يديعوت أحرونوت فقد نشرت رسماً كاريكاتيرياً يظهر مدير السجن ساقطاً على الأرض، بينما يمرّ من فوقه شابٌ عربيٌّ قائلا له: (عن إذنك .. أنا ذاهب إلى غزة).
لم تكن تلك التجربة الأخيرة للبطل حمزة في الهروب من السجن. فقد انضم حمزة يونس وابن عمه مكرم للمناضلين في غزة التي عاش فيها بعد الهروب، ومن ثم شارك في معارك عام 1967 ورفض الانسحاب مع القوات المصرية، واستمر في القتال حتى نفذت ذخيرته وقد أصيب بالرصاص في قدميه، ووقع أسيراً في يد قوات الاحتلال.
لم تدم الفرحة الصهيونية باعتقال حمزة طويلاً، فقد نجح للمرة الثانية في الهروب من المستشفى حيث كان يُعالج من إصابته، ومن ثم وصل عمان ومنها إلى بيروت، حيث انضم إلى حركة فتح، واشترك في تشكيل الخلايا المسلحة التي نشطت ضدّ الاحتلال في شمال فلسطين. وحتى بعد أن اعتقل للمرة الثالثة في العام 1971 خلال مشاركته في خلية حاولت التسلل إلى فلسطين عبر البحر، وحُكِم عليه بالسجن المؤبد في سجن الرملة، لم يستسلم صاحبنا، وقرر الهروب للمرة الثالثة، وكان له ذلك عن طريق الهروب من نافذة غرفة المغسلة في سجن الرملة، حتى وصل لبنان مرة أخرى، ورجع للعمل في حركة فتح.
يمكن قراءة كامل قصة الهروب الثانية والثالثة وتفاصيلهما في كتابه “الهروب من سجن الرملة“.
قصص سلواد مع الهروب
وبعد أربع سنواتٍ من انتشار قصص البطولة حول هروب حمزة يونس ورفيقيه، وفي سجن رام الله تحديداً، همس محمود عبد الله مصطفى حماد، ابن قرية سلواد شرق رام الله، والمشهور بلقب محمود الصيفي، في أذن زين الدين حامد في اللحظة الأخيرة: “سنهرب الآن”، فيما الشاويش يقترب وصوت مفاتيحه يرّن في المكان: “كيف؟ ماذا سنفعل؟” سأل زين الدين، “فقط اتبعني” أجابه محمود.
آذان الفجر لم يرفع بعد، زين الدين حامد (45 عاماً) ومحمود حماد (21 عاماً) يسيرون خلف الشاويش وعيونهم تقلِّب ممرات سجن رام الله، الذي كان شبه خالٍ من السجانين والحرس، وعندما وصلوا الساحة وجّه محمود ضربةً مباشرةً على رأس الشاويش ليسقط فوراً مغشياً عليه.
محمود الرياضي والحائز على ميداليات عدّة في سباق الضاحية، يركض باتجاه سور السجن، يتخطاه ويقفز ثم يتخطى السياج ليصل إلى الشارع، أما زين الدين يقع عن السور ما تسبب بكسر قدمه، لتدوّي بعد لحظات صفارات الإنذار في المكان ويهرع الجنود والسجانون وصولاً إلى زين الدين، فيما يواصل محمود الفرار بعيداً.
“الهروب من السجن كان الخلاص الوحيد لمحمود”، يقول أمين حماد الذين يروي حكاية هروب شقيقه من سجون الاحتلال، ففي أيار 1968 نفذ محمود حماد ورفيقه زين الدين حامد وعبد القادر حماد (بدران) وجميعهم من سلواد عملية “وعر العدس” الفدائية بالقرب من جبل تل العاصور في سلواد.
نصب الشّبان كميناً لثلاثة جيبات عسكرية لجيش الاحتلال كانت متوجهة للقاعدة العسكرية الصهيونية الأمريكية المشتركة المقامة على رأس الجبل. بالقنابل والرشاشات نفذ الفدائيون الثلاثة عمليتهم التي قتل فيها 12 جندياً صهيونياً، قبل أن ينسحب المنفذون بسلام من المكان. وفي شهر آب من العام نفسه طالتهم يد الاحتلال، حيث اعتقلت قوات الاحتلال حينها كافة أفراد الخلية الذين بلغ عددهم 15 فدائياً وفدائيةً.
حُكِمَ بالسجن المؤبد على الفدائيين الثلاثة، وأصدرت محاكم الاحتلال إضافة لذلك قراراً بنسف منازلهم ومنازل فدائيين آخرين في الخلية، لينسف الاحتلال في ذاك اليوم تسعة منازل دفعة واحدة في سلواد.
لم يكن هذا الاعتقال هو الاعتقال الأول لمحمود، ففي حزيران 1967 اعتقلته قوات الاحتلال بعد أن تهرّب من الأردن إلى داخل الضفة الغربيّة، وزجّت به في سجن رام الله لمدة شهرٍ ونصف، درس خلالها سجن رام الله بتفاصيله المعمارية ومخارجه ونظامه، وهو الأمر الذي ساعده في عملية الهروب والنجاح فيها لاحقاً.
وعودة إلى تجربة الهروب التي خاضها محمود، فبعد نجاحه في التستر عن أعين الاحتلال، قضى محمود تسعة شهور (من تشرين الثاني 1969 – آب 1970) مطارداً في جبال سلواد والمنطقة المحيطة بها. كان الاحتلال يلاحقه عبر تيسير وحدات المشاة، ويقتحم منزل العائلة يومياً وينصب الكمائن داخل المنزل، فيما اعتقلت والدة محمود وشقيقه ثلاثة أيام في محاولة للضغط عليه وتسليم نفسه، ليفرج عنهم بعد ذلك مقابل غرامة مالية مرتفعة.
يروي أمين شقيق محمود أنه في إحدى ليالي الشتاء وبينما الثلوج تتساقط، اقتحمت قوات الاحتلال منزلهم يبحثون عن محمود، قال الضابط لوالدة محمود يائساً من العثور عليه: “هذا هو محمود أنا متأكد، أنت ساحرة ولقد حوّلتيه إلى هذا الخاروف”. ويبين أمين أن محمود كان يزور العائلة في تلك اللحظة وكان لتوه خارجاً من المنزل حينما تم اقتحامه، “لو أنهم تتبعوا آثار الأقدام على الثلج لاستطاعوا اللحاق به، ولكنهم انشغلوا بحلّ لغز اختفائه فجأة رغم تأكدهم من وجوده في المنزل”.
إفشال كافة محاولات اعتقال محمود، لم تكن مجرد صدف أو حسن طالع، وإنما بمساعدة وعون أصحابٍ وفروا الحماية والتمويه والحراسة الدائمة لمحمود، حتى أنهم أمدّوه بالسلاح ليدافع عن نفسه إذا وقع في مواجهة مع قوات الاحتلال.
لم يبق محمود مطارداً في الجبال، فقرر عبور نهر الأردن، وانتقل للعيش في الأردن، حيث وفر له أصدقاء أردنيون العون والمساعدة، إلى أن نصحه أحدهم بتسليم نفسه للسلطات الأردنية حتى لا يبقى متخفيا. يروي أمين، أن شقيقه ذاق الويل في السجون الأردنية، وأنه حاول الانتحار عندما قيل له أنه يجب أن يُسلّم إلى دولة الاحتلال.
في نهاية الأمر، نُفي محمود إلى الكويت، وأجبر على توقيع تعهد بعدم دخول الأراضي الأردنية. استمر في العيش في الكويت إلى أن نشبت حرب الخليج الأولى، فاضطر للرجوع إلى عمان، وسمح له بذلك، إلى أن توفي في العام 2008.
قصة ناصر عيسى حامد
لم تمر سنوات قليلة على نجاح هروب محمود حماد، حتى نجح ابن بلدته ناصر عيسى حامد في الهروب من محكمة الاحتلال في 27 كانون ثاني 1983. يروي ناصر أنه كان حينها يبلغ من العمر (15عاما) يجلس وشركاءه في الخلية في قاعة الانتظار بالمحكمة، حينما بدأت مواجهات بين مجموعة أسرى وقوات الاحتلال داخل قاعة المحكمة. حينها أصدرت محكمة الاحتلال بحقّ الأسرى من مخيم قلنديا، عرف منهم محمد فريد، أحكاماً تراوحت بين 25 عاماً إلى الحكم المؤبد، اتفقوا سويا أنه فور النطق بالحكم أن يقوموا بافتعال مواجهات داخل المحكمة يستطيعون خلالها الهروب.
بدأ الاحتلال يدفع بتعزيزات عسكرية للمحكمة بعد انكشاف خطة الأسرى، وقبل أن تبدأ قوات الاحتلال بإلقاء القنابل الغازية، طلب ناصر من السجان فك قيده بهدف الذهاب لقضاء حاجته. يقول ناصر: “اشتدت المناوشات في المحكمة، تلفتُ حولي بحثاً عن السجان فلم أجده، فيما رأيت امرأة مسنة تختنق تمر من المكان فساعدتها وغسلت لها وجهها ثم مسكت بيدها لتوصيلها إلى باب المحكمة لتخرج منها”.
ناصر والذي حضر عدة جلسات محاكمة سابقاً كان يعلم جيداً أنه بمجرد الخروج من بوابة مقر المحكمة العسكرية لا يوجد من يدقق بالمارين، إلا أن الطريف بالموقف، أن المسنة ثار غضبها مجدداً وعادت إلى قاعة المحكمة للمشاركة بالمناوشات، فيما تركت ناصر وسط الطريق وحده إلا أنه أصر على إكمال طريقه.
ويزداد الموقف طرافة بوصول ناصر بوابة المحكمة الخارجية، حيث وجد والدته ومجموعة نسوة ينتظرن السماح لهن بالدخول، فيقول: “صرخت أمي حينها ظناً منها أنه تم الإفراج عني، فقلت لها أنه تمت تأجل المحكمة واستمريت بالخروج والابتعاد عن المنطقة قبل انكشاف أمري”.
ظلّ ناصر يمشي حتى وصل منطقة عين مصباح في رام الله حيث احتمى بمبنى قديم مهجور غير مكتمل البناء، قبل أن يسمع مروحيات الاحتلال تحوم في المنطقة، فيقرر الانتقال إلى منطقة أخرى حتى حلول المساء ليعود إلى منزله في بلدة سلواد.
يقول ناصر: “في اليوم الثاني بدأت الثلوج بالهطول، اختبأت حينها في بئر كنا نذهب عليه لصيد الحمام (..) تجربة شاقة جدا كانت والكثيرون خافوا أن يساعدوني”، لم يكمل ناصر الأربعة أيام حراّ حتى قرر تسليم نفسه، فقوات الاحتلال بدأت باقتحام منزله واعتقلت والدته.
الحلّ أمام ناصر كان بتسليم نفسه وقضاء حكما بالسجن سبع سنوات أو الهروب إلى الأردن، “الحرية أمر فطري، ولكن بالنسبة لي السجن كان أفضل بكثير من الهروب خارج البلاد”. تجربة ناصر لم تذهب هباء ففي إحدى الليالي وبعد شهر واحد، اقترب الأسير مجدي سليمان أبو الصفا من قرية كفر مالك وسأل ناصر عن تجربة هروبه، “أخبرته أنه تجربة جيدة، وما دام خرج من بوابة المحكمة فهو بأمان (..) اعتقدت حينها أن يمزح”.
وفي اليوم التالي، وخلال عقد محكمة الاحتلال جلسة لتداول قضية مجدي المتهم بتصفية أحد العملاء، تمكن من الهروب من المحكمة ثم إلى الأردن إلى أن وصل كولومبيا، وحسب مصادر من قرية كفر مالك فمجدي مستقر حتى يومنا هذا في البرازيل، ولم يعد إلى البلاد مذ ذاك الوقت خوفا من زجه مجددا في سجون الاحتلال.
ما يسمى بأمن المحاكم الإسرائيلية اعتقد حينها أن نجاح عمليتي هروب من المحكمة هو خلل بأحد ضباط الاحتلال في المحكمة واتهمته بتلقي رشاوي من أهالي الأسرى، وقاموا بتبديله إثر عملية هروب مجد أبو الصفا، فيما يؤكد ناصر على أن الأسرى كانوا “يتنكدون” لوجوده ورؤيته حيث كان دقيقا جدا ويفرض حراسة مجددة على الأسرى، حتى أنه كان يمنعنهم من أخذ سجائر الدخان من الأهل، ورغم ذلك نجح ناصر ثم مجدي من الهروب.
يتبع
المصدر
http://www.babelwad.com/houroub-men-elsejen/