اياد شماسنة\ شاعر وروائي
في
البدء كانت الفكرة، والفكرة فأس حجري يثقب بحر الجليد، والفكرة جرح مفتوح يتدفق
بالمعنى. والجرح حكاية، وأنا سليل عائلة تحكي منذ خروج الحسين من مكة حتى
اليوم، ثم تروي؛ لتساهم في تكوين الرواية،
والرواية تأويل الحكاية.
كان اسمها أولا: فرانكشتاين في إسرائيل ،ثم رأيت
الجنرالات يرقصون رقصا وثنيا حول حطب الحرب والصراع. رأيت البسطاء مصلوبين فوق
أحلامهم وحقولهم. ورأيت الجدران تقوم بين القلب والقلب، بين الإنسان والإنسان،
والتاريخ يسرق أو ينهب أو يزوَّرُ وَيُباع. والأبناءُ يعاد تكوينهم بالعنف والقوة،
تجهيلا أو تنميطا، أو غسيلا: بالدم والدموع والعرق.
كل
الأحداث تتصاعد في حلقة متكاملة حول نار إغريقية تحرق ولا تخمد. لم أَرَ الفينيقَ ينجو من الحريق. لا تصدِّقوا من قال
إنّه نجا، الأُسْطورَةُ هُنا توظَّفُ في خدمَةِ الجِنرالاتِ، تُخَلَّقُ أوْ
تُقْتَلُ أوْ تُشَوَّهُ أوْ تُباعُ، ربما تخلق النار أُسْطورَةً أُخرى، لكن ما
كان، لا يعود لا يعود أبدا كما كان.
لم أر
إلا الضحايا بين الماء والماء، رأيتهم تحت شاطئ يافا، وفوق ملح البحر الميت، وفي
أعالي الجولان، في تراب النقب الجاف وبيارات الشمال، في حيفا وغزة، أبصرت
الجنرالات يشربون نخب الموت، يسكرون ويقتلون، والنار ما تزال في علوها. فكانت رواية عن الرقص الوثني.
في هذه
الرواية، لا يموت المؤلف كما يقول المعلم في الكتابة رولان بارت، لأن الحكاية عن
رواية الرواية والرواية المضادة، هنا لا تبق مسلمات لا تناقش،لا محرمات نتقيها،
نتقمص الشخصيات التي ترقص في حلبة الصراع، تتصاعد المواقف وتتوالى المفاجآت، نعيد
الكتابة، ونمنح للأسماء تكوينها، صفاتها، طرائق عيشها، وفلسفتها، نخرج من قبعة
الساحر،يخرج أرنب السرد ليلعب لعبة يتقنها باقتدار، يحاول الساحر تطويعه لخدمة
النص، يصبح النص أرنبا آخر يلعب لعبته، وتكون الرواية، ثم الخلاف مرة أخرى على
مصداقية الراوي، وصحة الأسطورة، ويشرب الجميع نخب البسطاء، يضحكون ويسهرون، وتنام
الحقيقة في العراء.
في
لعبة الرقص الوثني، لكل راقص مكانه في النار أو حول النار، هذا يقرع طبل الطقوس،
هذا يَصلِبُ أوْ يحرِقُ أو يَأكُلُ، وهناك الفقراء الذين ينتظرون فتات الموائد،
والاتفاقيات والمؤامرات،هناك الحواجز التي تحاول قتل الحب في زمن الابارتهايد،
هناك الجسد المقسم في المقسم، هناك النار التي هي أخت الطين، وهناك الحطب الذي هو
ابن الطين وزاد النار، وهناك الدم والميلاد والبعث،.هناك الرواية كاملة حول النار
الوثنية.
بن
يهودا، سليمان بن شاهين، مايك الارمني، استنير بن يهودا، ادر يس العتيق، نتالي
فريدمان، تسيبي، خالد سعيد عبد الحق، وسعيد وصفية ومريام، الطبيب والعسكري، الأمني
والسياسي والأكاديمي والمخابراتي، الفاسق والتقي والشرير، البسطاء والشياطين
والملائكة، يصنعون معا مادة أدبية، أزعم أنها مفعمة بالتشويق، أحداث لا يمكن
التنبؤ بها مسبقا، أسرار تذكر، أو يتناولها السرد بالجرأة الأولى.
في
رواية للعبة الرقص الوثني،لا نُدين ولا نَبكي ولا نَتباكى، نتلبس النفس الأمارة
بالشجاعة، تتلبسنا، نقول ما لنا وما علينا، كيف كنا وأين صرنا، من نحن ومن هو
عدونا، لسنا ملتزمين إلا بتقنية السرد وفن الرواية المراوغ، نزعم أننا نتحيز إلى
الجرأة، لا تابوهات إلا ما يهلك الإنسان، لا خطوط إلا خطوط السرد. السرد سيد
الموقف.
قالوا
إن الرواية ألقت حجرا في مياه راكدة، ذلك أنها قالت ما هو الحال اليوم بكل تعريه،
وأننا ما زلنا نترنح أمام صانع الرواية الأخرى، ذلك الذي يتقن خلق الميثوبيا، يكذب
ويصدق ويجعل الناس يصدقون، وثم يقوم بترسيخ أسطورته المخلَّقة، وَنحن ما زلنا
عالقين في المرحلة الأولى، في تفسير ما حدث. ما زلنا في النقطة الأولى بعد سبعين
عاما من الركض المجنون إلى هدفنا البعيد، لقد وصل المتاجرون بالأسطورة حد التطهر
بالاعتراف أن الضحية على حق، فأنتجوا ما هو أكثر اتساعا واعترافا واحترافا مما
كتبنا، لم نجرؤ في أحيان كثيرة على الاعتراف بأننا ضحايا تم قتلنا أو اغتصابنا،
مارسنا التقية ولم نعترف إلا بكبرياء القتلى، وعنفوان الموت، وطهارة الشهداء، لم
نقل ما حدث بالضبط، عن الفسوق والعصيان، وأسباب السقوط والتردي، إلا فلسفة وتعبئة
او بكاء، كانوا يتطهرون من وزر دمنا فكتبوا عن اختلاق الدولة والشريعة والشعب
والدين، واختراع الأمة والدولة، عن الاغتصاب والموت والسلب، ونحن ما زلنا في العام
الأول من رواية تاريخ الجرح الأكبر.
في
النهاية، كما هي لعبة الرقص الوثني دائما، تنهي الطقوس بانتصار الراوي، ومن يروي
ويكتب الحكاية يرث أرض الكلام، كما يقول محمود درويش، ويشرب نخب الكلام من تبقى،
ليحكي، ويبقى المؤلف، لا يموت، ولا يتدخل في تداعيات الحكايات، وما نكأت من جراح،
فالرواية فأس حجري يثقب بحر الجليد، يرتق الجرح أو يفتحه على حكايات أكبر وأكثر
عمقا واتساعا، وفي النهاية تبقى الفكرة، والفكرة جرح مفتوح يتدفق بالمعنى.
تعليقات
إرسال تعليق